"فرحة" أو آن فرانك الفلسطينية
لولا الضجّة الإسرائيلية على بث شبكة نتفليكس فيلم "فرحة" لظل نخبوياً، ولما أثار هذه الزوابع على ضفتي الصراع، فليس الإسرائيليون وحسب من استقبلوا الفيلم بالاستنكار والرفض، بل إن فلسطينيين كثيرين، سواء على مواقع التواصل الاجتماعي أو في بعض المقالات، رأوا أنه لا يمثل شعبهم، فهو، في رأيهم، غير منصف، ومنحاز ضمناً للرواية الإسرائيلية. إضافة إلى أنه عوّم الصراع، فلم يحدد مكانه بالضبط، وخفّفه فإذا هو بدم قليل وآلام أقلّ مما هو عليه في الحقيقة.
آراء كهذه قوبلت بأخرى تمجّد الفيلم وترى أنه قدّم رواية فلسطينية متماسكة، مؤنسنة، بأدواتٍ جماليةٍ أخاذة، وأنه تسبب بأذى بالغ لصورة إسرائيل وروايتها بلغة السينما وشروطها الفنية، لا بالشعار والهتاف الذي لا يسمعه سوى مُطلقه، وأن هذا الأذى سيزداد كلما شوهد الفيلم أكثر، خصوصاً في الغرب الذي تمر قطاعات كبيرة فيه بمرحلة إعادة اكتشاف متأخرة للاحتلال الإسرائيلي. ومن المؤسف أن هذا الجدل غيّب الفيلم نفسه، وانتزعه من سياقه السينمائي، وأغفل رسالته المضمرة، وكونه يتناصّ، إذا صحّ التعبير، مع المأساة اليهودية في عمقها، فالألم الإنساني واحد، ما ينقُض المحاولات الإسرائيلية الدؤوبة والمستميتة لاحتكار دور الضحية، فالفيلم يستدعي فعلياً واحدةً من أكثر قصص الهولوكوست شهرةً، يوميات آن فرانك، الطفلة اليهودية التي اختبأت وأسرتها في أحد مباني أمستردام عقب الاحتلال النازي لهولندا، وكتبت، من مخبئها، يومياتها التي دخلت تاريخ السينما من أبوابه الواسعة، فأُنتجت عدة أفلام درامية طويلة وأخرى توثيقية وثالثة رسوماً متحرّكة مأخوذة عن تلك اليوميات، ومن أشهرها فيلم "يوميات آن فرانك" (إنتاج عام 1959 للمخرج الأميركي جورج ستيفنز الحائز على أوسكار أفضل مخرج مرّتين).
وللتوضيح، تماثل فرحة في الفيلم آن فرانك في العمر، وكلتاهما تقعان ضحية قوة غاشمة قد تقتحم المكانين اللذين اختبأتا فيه. في رواية آن فرانك هناك النازيون على الأبواب، إنهم في المدينة، في كل مكان، وليس ثمّة سوى الخوف ما يهيمن على المشاعر من الجنود الذين يقتلون بلا رحمة، أو يُرسلون ضحاياهم إلى معسكرات الاعتقال. أما في "فرحة" فنرى جنود الاحتلال من خلال عيني الفتاة الصغيرة الخائفة وهي تنظر من شقّ صغير في باب مغلق، وهم يدخلون بيت أبيها ويقتلون عائلة كاملة بلا أي رحمة.
بهذا يكون "فرحة" - الفيلم أقرب إلى نصّ على نص، أو فيلم يحاور آخر، أو الوجه المغيّب قسراً في الغرب بحكم نفوذ الرواية الإسرائيلية وقوتها هناك، للمأساة الفلسطينية التي تحوّلت فيها ضحية الهولوكوست إلى جلاد ضحية أخرى، وهذا ما يؤلم الإسرائيليين، فهم لا يريدون أن يُنافسوا على دور الضحية، فما بالك لو كانت تذكّرهم بأنهم تحوّلوا، بعد النكبة، من يهود إلى إسرائيليين، ومن ضحايا إبادة غير رحيمة وغير مسبوقة في التاريخ إلى قتلة.
وأن يعرض فيلم "فرحة" في الغرب، وأن يُرشّح للأوسكار عن جائرة أفضل فيلم أجنبي، فهذا يؤلم أكثر، فمشاهده الغربي سيستدعي، من خلال بطلته الفلسطينية، الضحية الأقرب إليه، والتي يعرفها في السينما والكتاب والمتحف، وهي آن فرانك، وسيتعاطف مع "فرحة" تلقائياً، باعتبار أن آلام الأخيرة استمرار لمعاناة الأولى. وأظن أن الفيلم، وهو مكثّف، قدّم فكرته بذكاء وبأدوات فنية رفيعة المستوى وبدون ترهل ولا بكائيات، بل بسرد ذكي ومشوّق ومتوتر إلى أقصى حد، ونجح في مبتغاه فأوجع من جانب (الإسرائيليون) كما صدم وأربك من جانب آخر (فلسطينيون). أما لماذا صدم بعض الفلسطينيين، فليس لأنه نفّذ أجندة الجهات الداعمة للفيلم، كما قيل، فعوّم الصراع ولم يحدّده، وعُني بأنسنة الإسرائيلي، وهذا ليس صحيحاً بالمناسبة، فمن شاهده الفيلم يعرف من الحوار أن أحداثه وقعت في محيط مدينة طولكرم، وأنه لم يجمّل الخيانة ولا الجنود الإسرائيليين، وأن جل ما فعله فصدم بعض جمهوره أنه لم يُنمّط أو لم يخضع للصور النمطية، فلا المختار في الفيلم خائن، رغم أن صورته في السرد الفلسطيني سلبية، ولا حتى المخبر الفلسطيني بمثل صورته المشيطنة تماماً، ولا حتى بعض الجنود كذلك. أمور كهذه تصدِم، لكنها لا تخصم من رصيد الفيلم، وإن كانت مرشحة لنقاشات أوسع ليس هنا مجالها بالتأكيد.