فرق أجيال وطبقات اجتماعية
قبل أيام، كنتُ أشاهد، مع إحدى صديقاتي، صور وفيديوهات من حفل شابّة قريبة لها، لفتني في المادّة التي رأيتها كيف كان والد العروس يتصرّف مع ابنته، كيف يراقصها ويرقص معها، كيف يحضنُها ويقبّلها، كيف يتعامل مع أصدقائها، كان سعيداً جداً، في الوقت الذي كان لا يمكنه إخفاء دموعه وهو يرى ابنته الحبيبة عروساً فاتنة. بالنسبة لي، كان المشهد بكامله الصورة المثالية التي في ذهني عن الأب في علاقته مع ابنته؛ أو لنقل هو الصورة الكاملة التي لا ينقصها شيء؛ الصورة التي لطالما تمنّيتها وتخيّلتها لكنها لم تحدُث لا لي ولا لأية شابة قريبة مني. الصورة المشابهة لما يحدُث في الأفلام أو في الحكايات الجميلة عن العائلات السعيدة التي ترتبط بعضها ببعض بعلاقاتٍ سليمةٍ وصحية ونموذجية. قالت لي صديقتي إن الوالدين منفصلان، لكنهما في ما يتعلق بأولادهما علاقتهما ممتازة، خصوصاً أن المستوى المعيشي للعائلة متقدّم جدّاً.
مسألة الطلاق أو الانفصال في بلادنا بين الزوجين معقدة، إذا كان ثمّة أولاد في الصورة. في مجتمعاتنا نادراً ما يُكمل الوالد مسؤوليته تجاه أبنائه بعد الانفصال، عادة ما تتحمّل الأم كل تبعات الانفصال المادية والمعنوية، أو سوف تقضي وقتها في المحاكم محاولة الحصول على حقوق أولادها قبل حقوقها، خصوصاً لدى الطبقة المتوسّطة، أو ما تبقّى منها، هذه المعاناة التي تعاني منها الأم سوف تنعكس سلباً على علاقة الأبناء بوالدهم وبوالدتهم أيضاً، ما سيترُك أثراً واضحاً على مساراتهم وخياراتهم لاحقاً. ومن النادر أن يتمكّن زوجان في مجتمعاتنا من الاحتفاظ بعلاقة جيدة بعد الطلاق تحرص على مصلحة الأولاد وصحّتهم النفسية، يحتاج هذا قدراً كبيراً من الوعي والتفهّم والتخلص من المظلومية والأنانية.
لدى أبناء جيلي، قلما رأيت علاقة بقيت متوازنة بعد الطلاق (عدد حالات الطلاق قليلة جداً في سورية تلك الفترة)، فالبدايات لم تكن مبنيةً على أسس سليمة لا في الحب ولا في الزواج. كان جيلنا يعيش حالة متطرّفة من التمرّد الاجتماعي والأسري، لم أشهد أي زواج لأحد من أصدقائي على الطريقة التقليدية، تزوج أغلبنا سرّاً أو زواجاً سريعاً في المحكمة بعيداً عن تدخل العائلة وسلطتها. وغالباً كانت خياراتنا في الزواج متمرّدة أيضاً، أساسها حبٌّ مراهق غير مبني على أية معطيات سليمة. لهذا كان الطلاق لمن تطلقوا منا عنيفاً بعنف الحب والزواج نفسه، وتحوّلت العلاقة إلى حالة مرهقة من القطيعة والتوتر دفع أبناؤنا ثمنها بقسوة. أما الناجون من هذا التوتر بعد الطلاق فهم قلّة تعيش، غالباً، في مستوىً مادّي فوق الجيد يتيح لها حرية سلوك وخيارات متخففة كثيراً من الوصاية المجتمعية المرهقة لكل أطراف العلاقة.
تخلّص أولادنا من العلاقات المركّبة في الحب والزواج والطلاق، ساعدتهم ثورة الاتصالات الحديثة على ذلك، وساعدهم اشتباكهم مع ثقافاتٍ أخرى، سواء افتراضياً أو واقعياً، بعد موجات اللجوء والهجرة، كان للربيع العربي وإرهاصاته وفشله دور مهم أيضاً في فهمهم لصراع الأجيال واختلافه وتأثيره على صحّتهم النفسية، واعتمادهم على العلاج النفسي الأكاديمي لحل كثير من مشكلاتٍ مرتبطة بعلاقتهم بنا نحن جيل الآباء والأمهات. (وهذا أمر لم يكن متاحاً في مرحلتنا نحن في سورية على الأقل، اللجوء إلى مختصّ نفسي كان يسبب الخجل ويتم في السر غالباً، إذ ارتبط الطب النفسي بالجنون فقط).
ساعدت ثورة الاتصالات وموجات الربيع العربي أولادنا على فهم معنى الحرية والاستقلالية بوعي وخبرة يتفوّقان على وعينا وخبرتنا، ذلك أنها خبرة مدفوع ثمنها من حياتهم بأكملها، من حاضرهم ومستقبلهم، من أحلامهم وآمالهم، من كل ما خطّطوا له، وهو ما يجعل من فكرة عيش أحدهم وحيداً فكرة عادية وقد تكون مرغوبة، وتجعل من الطلاق أو الانفصال حلّاً متاحاً جداً عند حدوث ما يعكّر صفو الحياة المشتركة. هذه الأريحية في التعامل مع الحياة جعلت من الانفصال والطلاق موضوعاً إجرائياً، ينهي العلاقة الجسدية بين الاثنين، لكنه لا ينهي الصداقة ولا العشرة، خصوصاً في حالة وجود طفل، يصبح الاثنان شريكيْن وصديقيْن يتساعدان على تنشئة طفلهما تنشئة لائقة على كل المستويات. ورغم أن صورة العائلة التقليدية المثالية بدأت بالانحسار على مستوى العالم، حتى في الأفلام والحكايات الشعبية، لكن هذا، في ظل قوانين تحمي الطفل وتهتم بسلامته النفسية، سيكون أكثر رأفةً على الأبناء من العيش بين أبوين يحمّلان أولادَهما جريرة خياراتهما الفاشلة.