فرنسا المنشطرة اثنتين
لا أعرف إلى أي مدىً يهتم المواطنون العرب بنتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية في دورتها الأولى، حيث حقق حزب التجمّع الوطني، اليميني المتطرّف، نتائج لم يسبق له أبداً أن بلغها طوال تاريخه برئاسة لوبان الوالد، ثم لوبان الابنة التي سعت جاهدة إلى "تبييض" صفحة الحزب، المعروف بمعاداته الشرسة والعنيفة غير الفرنسيين، يهوداً ومسلمين. لقد حقق نسبة تزيد عن 34% من أصوات الناخبين، أي ما يعادل 12 مليون ناخب فرنسي. هؤلاء عبّروا عن خيباتهم العميقة مما آلت إليه السياسات المتعاقبة في فرنسا، يساراً ويميناً، على مختلف المستويات، وعبّروا أيضاً عن غضبهم، حيث يعانون اقتصادياً ويعجزون عن بلوغ مستوى عيشٍ لائق، في حين تهطل عليهم، ومنذ عقود، وعود انتخابية كاذبة لا تُفضي إلى نتائج. لذا تراهم اليوم يتشبثون بوعود هميونية لا تستند إلى برنامج واقعي، كالتي يُغدقها عليهم حزب التجمّع الوطني الذي يزعم أنه يملك مفاتيح الحلّ الذي سيوفّر لهم الأمن والغذاء مع إقفال باب الهجرة نهائياً، وصولاً إلى إمكانية طرد كل أولئك "الأغراب" الذين لا ينتمون إلى ثقافتهم.
وفرنسا التي تميل أكثر فأكثر نحو طروحات اليمين المتطرّف المعادية للمهاجرين، والواعدة بإعادة فرنسا إلى مجدها القديم وبفصلها ربما عن سياسة الاتحاد الأوروبي وإعادة السيادة إليها، تبدو بالفعل أمام لحظةٍ تاريخيةٍ استثنائية في تاريخ الجمهورية الخامسة، مع الإشارة إلى صعود حزب الجبهة الشعبية الجديدة الذي جاء تشكيله ردّ فعل متأخّراً على فوز اليمين المتطرّف في الانتخابات الأوروبية أخيراً، وقرار الرئيس الفرنسي، ماكرون، حلّ الجمعية الوطنية (البرلمان)، في 9 الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، وهو تجمّع أحزاب يسارية معتدلة إذا صحّ التعبير (مناوئة لسياسة ميلانشون الرديكالية وحزبه)، ما زالت متمسّكة بتاريخ فرنسا (الثورة الفرنسية، عصر الأنوار، ... إلخ) وقيمها الثقافية الكونية القائمة على تحقيق الحرية والعدالة والمساواة.
ولنأمل أن "صحوة" ما ستحدُث فعلاً في الدورة الثانية (7 يوليو/ تموز) لتنقذ فرنسا من وصول رئيس الحزب جوردان بارديلا (28 سنة) إلى رئاسة الحكومة، كما حصل عام 1995 في الانتخابات الرئاسية التي كادت توصل لوبان الأب إلى رئاسة الجمهورية، فكان أن جرى انتخاب الرئيس شيراك بنسبة 82% في الدورة الثانية، فإن ما لا يمكن إنكاره أو التغاضي عنه، هو ذلك الانشطار العميق في المجتمع الفرنسي، وتحوّل البلاد فعلياً إلى اثنتين، إذ لن يتمكّن الرئيس ماكرون من الحكم فعلياً في الأعوام الثلاثة المتبقية من حكمه، وهو ما سيزيد منطقياً من حظوظ اليمين المتطرّف في فرض حضوره في السياسة الفرنسية، وصولاً إلى فوزه القريب أو المتوسّط المدى.
عملياً، لم تعد فرنسا هي نفسها، وهذا سوف يؤثّر على سياستها الداخلية والخارجية معاً، ومفاده بأن الفرنسيين، في أغلبيتهم، صوّتوا لمشروع سياسي مخيف يمكن اختصاره بشعار "فرنسا للفرنسيين"، حيث يقتضي منع مزدوجي الجنسية من تبوؤ مراكز حسّاسة في حقلي الأمن والدفاع، والحدّ من حقّ المهاجرين والأجانب في الخدمات الصحية والرعاية الاجتماعية، ومزيداً من الإقصاء للمسلمين والمهاجرين من أصول عربية، وتصاعد العنصرية مجتمعاً وفي ممارسات الشرطة، ورفض الاعتراف بالدولة الفلسطينية واعتبار الأمر بمثابة اعتراف بالإرهاب، ... إلخ. والحال أن لا شيء يبشّر بالخير في برنامج اليمين المتطرّف وحلفائه، بل هناك من يتحدّث عن حربٍ أهليةٍ تلي الدورة الثانية في حال فوز التجمّع الوطني بأغلبية المقاعد في الجمعية الوطنية وإطلاق يده في الحكم.
أما نحن، الذين تربّينا على قيم الثقافة الفرنسية، أغانيها، أفلامها، أدبها، فلاسفتها، فيصيبُنا منذ الآن دُوار، لأن فرنسا التي كنّا نعرف ليست موقعاً جغرافياً فقط، إنها أيضا أسلوب عيش وتفكير ودفاع عن قيم إنسانية كونية... هل نودّع هذا كلّه، في حين يقف ترامب مجدّداً على عتبة البيت الأبيض؟