فرنسا وهذه الحرية
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
تحوّلت حادثة امتناع لاعب فريق باريس يان جيرمان الفرنسي، إدريس غاي، عن المشاركة في مباراة فريقه بالدوري المحلي، جرّاء رفضه ارتداء قميص يحمل ألوان قوس قزح، بمناسبة اليوم العالمي "لمناهضة رهاب المثلية الجنسية" (17 مايو/ أيار) الذي احتفى به الاتحاد الفرنسي، للمرّة الثانية على التوالي، بكتابة كل الأندية أرقام اللاعبين على القمصان، وشارات القيادة على الأذرع بألوان علم المثلية، إلى قضية رأي عام دولي، امتزج فيها الرياضي بالسياسي والاجتماعي بالثقافي، وحتى الهوياتي.
بدأ الأمر بقرار مجلس الأخلاقيات في الاتحاد الفرنسي لكرة القدم مراسلة اللاعب السنغالي المسلم، قصد الاستفسار عن مبرّرات الغياب، رغم معرفته الحقيقة مسبقا، فقد سبق للاعب أن قاطع احتفال السنة الماضية للسبب نفسه. وزاد المجلس بإعلان نيته فتح تحقيق في الموضوع، مخيرا غاي بين أمرين: دحض الإشاعة بتأكيد التضامن بارتداء قميص بألوان المثلية، أو الإقرار بالسلوك التمييزي ضد المثليين، والاستعداد لعواقب "جسامة الخطأ المرتكب"، بعد رفضه المشاركة في هذه العملية الجماعية.
فرنسا الحضارة التي تدعو إلى الاحتفاء باليوم العالمي لمناهضة رُهاب المثلية، تحرم لاعبا؛ أسود مسلما سنغاليا مهاجرا، من حريته في التعبير والتصرّف
وجد اللاعب نفسه، ويا للعجب، معرّضا للمتابعة والعقاب من مسيّري الشأن الكروي الفرنسي، لا بفعل الانتقاد أو الهجوم أو التهكّم أو الاستهزاء، وإنما بسبب الانسحاب والامتناع، فالرجل، كما يبدو، أعمل حكمة "أهل مكة أدرى بشعابها"، فلم ينطق بكلمةٍ ضد فعالية الدعم، من باب إدراك أن المسألة شأنٌ فرنسيٌّ صرف. لكن محاولة الصمت لم تُبعده عن الأضواء، ولم تجنّبه ويلات الهجوم والاتهام بالتشكيك في قيم الأنوار وشعار "الحرية والمساواة والأخوة"، فسرعان ما تعالت الأصوات المطالبة بطرده من النادي الباريسي، لتلقّيه "أجرا غير مستحق"، وكأن اللاعب وقع مع النادي قصد القيام بحملاتٍ ترويجيةٍ، لا ممارسة كرة القدم. ولم تتردّد فاليري باكريس؛ صاحبة 5 % من الأصوات باسم الجمهوريين في الانتخابات الرئاسية، في تكييف امتناع غاي بكونه جريمة، فلاعبو أندية كرة القدم، في نظر الوزيرة السابقة للتعليم العالي والابتكار (2011- 2012)، "أرقام تعريفية لشبابنا، وعليهم واجب أن يكونوا قدوة لهم". وتظهر السياسية الفرنسية بهذا الكلام زيف شعارات التعدّدية والتنوع والاختلاف لصالح نزعة شمولية، تعجز مساحيق فلسفية عن إخفائها. وتكشف حقيقة عن نظرة الفرنسيين إلى الأجانب (المهاجرين)، فهم في النهاية مجرّد أدوات تسخّر لخدمة قيم جمهوية الأنوار!
نسي المطالبون بالقصاص من غاي أن الامتناع عن إبداء موقف حيال قضية المثلية، كان أقل وطأة من هجوم إريك زيمور؛ المرشح السابق للانتخابات الرئاسية الفرنسية الذي رفض علانية عمل الجماعات المناهضة للعنصرية ورُهاب المثلية الجنسية في المدارس، وأنكر جهارا اعتقال النازيين المثليين جنسيا وترحيلهم إلى فرنسا. ونسيت فاليري باكريس أن الإشارة، قولا، إلى نظرية "الاستبدال العظيم" التي ترمي إلى إبادة كل ما ليس أبيض وأوروبيا كاثوليكيا، أقرب إلى الفعل الجرمي من صمت إدريس غاي في نازلة الحال.
كشفت تطورات هذه القضية المعنى الحقيقي لحرية التعبير في بلاد الأنوار، ففرنسا الحضارة التي تدعو إلى الاحتفاء باليوم العالمي لمناهضة رُهاب المثلية، من باب احترام حرّية المثليين، ذاتها التي تحرم لاعبا؛ أسود مسلما سنغاليا مهاجرا، من حريته في التعبير والتصرّف. هكذا تكون حرية التعبير مكفولةً متى وافق إيقاعها السمفونية السائدة في البلد، وممنوعة متى حملت أفكارا وقناعاتٍ مخالفة، حيث تصبح نشازا وتغريدا خارج السرب.
يعيد ما يجري من مساءلة للنيات، في حادثة إدريس غاي، إلى الأذهان قصص محاكم التفتيش، فلا صوت يعلو فوق صوت الحكومة (الكنيسة سابقا) التي تُمعن في اضطهاد المخالفين، وترفض حقهم في الاختلاف والتميز. لتصبح قيم التعدّدية ذات منحى واحد فقط؛ أي إجبار الآخر على احترام خصوصية الدولة، من دون أن تلزم نفسها باحترام خصوصية الغير أو على الأقل الاعتراف بحقه في الاختلاف.
يعيد ما يجري من مساءلة للنيات، في حادثة إدريس غاي، إلى الأذهان قصص محاكم التفتيش
على هذا الأساس، يُحرم اللاعب من حقة الطبيعي، قبل أن يكون حقا ثقافيا تفرضه قيم التعدّدية والاختلاف، في رفض المثلية. فيما تملك الدولة كل الحقوق لرفض الحجاب في الفضاء العامة باعتباره رمزا دينيا، من دون أن يعتبر ذلك سلوكا تمييزيا، ضد حوالي 10% من سكان البلد. أكثر من ذلك، وبالتزامن مع قضية إدريس غاي، تجدّد السجال بشأن لباس السباح "البوركيني"، بعد قرار رئيس بلدية مدينة غرونوبل السماح للنساء بارتدائه، في أماكن السباحة التابعة للبلدية، بداعي ضمان المساواة في الوصول إلى الخدمات العامة. تبرير لم يقنع وزير الداخلية الفرنسي الذي أكّد عزمه على تغيير القرار في أقرب فرصة، ليثبت أن حكومة بلاد فلاسفة الأنوار وحدها من تملك صلاحية تحديد الحرية لا الفرد.
حذّر عقلاء فرنسا، منذ بداية الألفية الثالثة، من أزمةٍ تصيب العقل الفرنسي نتيجة الإمعان في تطبيق سياسات الاستيعاب، بغرض إذابة الجميع في الجسد الواحد، في تجاهل تام للتنوع الحضاري والثقافي والديني.. تفضي إلى دولةٍ شموليةٍ تعترف فقط بقيم الجمهورية، فالتنميط في قالب جاهز على طريقة سرير بروكست، مصير كل من يطأ التراب الفرنسي، كما وصفهم أحدهم ساخرا، حين قال: "كلما قصر الجسم مددناه بالقوة، وكلما طال الجسم عمدنا إلى قص أطرافه.. المهم أن يلائم الجسم السرير وليس العكس".
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.