فرنسوا بورغا وثمن الحقيقة
يُعدُّ فرنسوا بورغا أحد أهم الباحثين والمفكرين الغربيين المعاصرين، والفرنسيين خصوصاً، ممن تركوا بصمة علمية فارقة ومميزة في فضاءات الأكاديميا الحديثة وسجالاتها واشتغالاتها، وخصوصاً في ما يتعلق بدراسات الشرق الإسلامي، أو ما يسمى الاستشراق الحديث، وفي القلب منه دراسة الظاهرة الإسلامية.
برز فرنسوا بورغا باكراً في واحد من أهم حقول الدراسات الاستشراقية المعاصرة، وهو دراسات ما اصطُلح على تسميته غربياً "الإسلام السياسي"، وبالحركات الإسلامية في العالم الإسلامي، وقدّم الرجل واحدةً من أهم المقاربات العلمية الأكثر قدرة تفسيرية لهذه الظاهرة التي وقفت أمامها الأكاديميا الغربية، ليست عاجزةً فحسب عن فهمها، وإنما أيضاً محتشدة لشيطنتها وتحميلها كلّ شرور الأرض، بل والكوكب كله.
عاش بورغا ما يقارب عقدين متجولاً في عواصم العالم العربي ومدنه، وخبر هذه المجتمعات جيداً من خلال دراساته الميدانية التي كان يقوم بها في إقاماته ورحلاته وأسفاره العديدة في مدن مجتمعات العالم العربي وأريافه الواسعة والمتنوعة، ما مكّن الرجل، بجانب إجادته المميّزة اللغة العربية، أن يفهم بنيتها الفكرية والاجتماعية والثقافية كما هي، بعيداً عن أي قراءات اختزالية مسبقة، درجت عليها مقاربات استشراقية عديدة للعالمين العربي والإسلامي.
كتبَ بورغا تغريدة على حسابه على موقع إكس، معلناً احترامه وتقديره حركة حماس، وأنها تعبّر عن إرادة الشعب الفلسطيني، وعدم احترامه القيادة الإسرائيلية
ولهذا كله، تميّز فرنسوا بورغا، واستطاع المحافظة على تراث وخط سير واحد من أهم نماذج الاستشراق الفرنسي، تحديداً ذلك التيار الذي مثّله يوماً جاك بيرك ومكسيم رودنسون تحديداً، واللذان أسّسا بدوريهما خطّاً استشراقياً معرفياً علمياً أبعده عن التفسيرات والأحكام المسبقة أو التحيزات الكولونيالية، فضلاً عن أن يكونا بمثابة خلية كولونيالية متقدّمة في قلب تراث الشرق الإسلامي، كما هو معروف عن مستشرقين عديدين.
ولا يخرج ما يواجهه اليوم فرنسوا بورغا من حملات على مساره المعرفي ومواقفه الواضحة بشأن عدد من القضايا في العالم الإسلامي، وفي مقدّمتها القضية الفلسطينية، عن سياق التوجّه المعروف للمركزية الغربية الكولونيالية الحاكمة للذهنية المعرفية الغربية كلها، تلك السردية المركزية التي تنظر إلى العالم كله، وإلى العالم الإسلامي، والعربي خصوصاً، من خلال ثقب تلك المركزية وتفسيراتها الجاهزة والمفصلة لهذا العالم الذي تختزله تلك السردية الغربية في ثنايا قصة ألف ليلة وليلة.
كتبَ بورغا، أخيراً، تغريدة على حسابه على موقع إكس، معلناً احترامه وتقديره حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وأنها تعبر عن إرادة الشعب الفلسطيني، وعدم احترامه القيادة الإسرائيلية جرّاء ما تقوم به من مجازر في غزة، فجنّ جنون الإعلام الفرنسي المسيطر عليه اللوبي الصهيوني في فرنسا، مواصلين هجومهم الدائم على المثقف المعروف، والذي يتهمونه بانحيازه الدائم للإسلاميين، باعتباره ليس فقط صديقاً للإخوان المسلمين، كما يصفونه، بل وباعتباره يسارياً إسلامياً.
استطاع بورغا المحافظة على تراث وخط سير واحد من أهم نماذج الاستشراق الفرنسي، تحديداً ذلك التيار الذي مثّله يوماً جاك بيرك ومكسيم رودنسون تحديداً
فالحديث عن جرائم دولة الكيان الصهيوني في فلسطين أو الاقتراب من كل ما يتعلق بهذه الدولة المصطنعة كانت تهمة تؤدّي إلى السجن أو إلى العزلة التامة لمن يتجرأ على التشكيك في حقيقة إسرائيل، كما حدث للفيلسوف والمفكر الفرنسي روجيه غارودي في تسعينيات القرن الماضي، عقب صدور كتابه "الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل" وكيف واجه بعد ذلك هجوماً شرساً، ليس فقط من اللوبي الصهيوني والمؤسسات التي يخترقها هذا اللوبي، وإنما، أيضاً، من محاكمته وإدانته.
وبالعودة اليوم لما يتعرض له المفكر الحر فرنسوا بورغا، ليس فقط نتاج موقفه من حقيقة دولة الكيان الصهيوني إسرائيل، وإنما أيضا لموقفه المعرفي والعلمي والواضح من مغالطات كثيرة في السردية المركزية الغربية تجاه العالمين العربي والإسلامي، وعن الإسلام بدرجة رئيسية، وكل ما يتعلق به، وخصوصا في ظل تلك السرديات التي ترى أن الأزمة القائمة اليوم هي نتاج للدين الإسلامي ونصوصه، باعتبارها نصوصا مولّدة للعنف الدائم.
مثل هذه السردية التي فنّدها بورغا بأكثر من أطروحة من "الإسلام السياسي صوت الجنوب" وصولاً إلى كتاب "فهم الإسلام السياسي"، وكلها أطروحات تردّ على كثير من السرديات الجاهزة بخصوص صعود الإسلاميين وعودة التدين في العالم الإسلامي. وكانت مقاربة بورغا دائماً تتمركز حول أن صعود الإسلام هو نتائج للاستعمار وسياساته الاستعمارية المستمرة في العالمين العربي والإسلامي، من خلال دعم السلطويات الاستبدادية الحاكمة وعدم دعم الغرب للانتقال الديمقراطي في العالم العربي، لأن أي انتقال لديمقراطية حقيقية سيكون نتاجه صعود الإسلاميين الذين يرى الغرب فيهم خصوما. فمثل هذه التصورات الغربية التي ترتدي قفاز العلمية، وهي لا تعدّ توجهات واستراتيجيات سياسية حاكمة، يجري تسويقها حقائق ودراسات مؤكدة ينبغي التسليم بها، ومثل هذه المقاربات هي التي لم تنعكس سلباً على الأوضاع في العالم العربي فحسب، بل وصلت اليوم إلى أن تكون مشكلات سياسية وأمنية داخل المجتمعات الغربية ذاتها، ممثلة بأزمة اللاجئين وأزمة الاندماج، عدا عن أزمة الإسلاموفوبيا وتداعياتها، وصولاً حتى صعود فكرة اليمين الشعبوي المتطرّف أوروبياً.
ربح فرنسوا بورغا المعركة كلها اليوم، وفي مقدّمتها المعركة الأخلاقية التي تحدّد إنسانية الإنسان من عدمه
عالج بورغا كل هذه المشكلات والقضايا باكراً في مقارباته، وقدّم لها حلولاً، وحذّر منها مبكّراً ولم يكن يألُ جهداً في كشف مثل هذه السياسات التي قال عنها يوماً إن الصراع اليوم في فرنسا مثلا هو بين أبناء المستعمرِين والمستعمرَين الذين يطالبون بحقوقهم. بل ذهب بعيداً في موضوع الاندماج بقوله أمام البرلمان الفرنسي إن "الغرب يرى أن المسلم الجيد هو الذي يتخلى عن إسلامه"، للرد على تطرّف العلمانية الفرنسية تجاه مسلميها، فيما لا تحمل القدر نفسه من الكراهية تجاه المسيحيين واليهود الذين ترعى الدولة الفرنسية مجلساً لهم في فرنسا، حيث نفوذهم الكبير.
حينما كانت نوافذ الإعلام ومنابرها شبه محتكرة ومحصورة في الدولة الرسمية، كان ثمة صوت وحيد هو المسموع ورؤية وسردية واحدة هي المتداولة بشأن أي حدث في الشرق والغرب، كما حصل لمحاكمة روجيه غارودي الشهيرة عام 1998، والتي لم تتعاط معها أيٌّ من وسائل الإعلام الغربية المحتكرة. أما اليوم فقد غيرت ثورة وسائل التواصل كل شيء، وما تشهده القضية الفلسطينية اليوم من دعم على امتداد العالم يُؤذن بأن عصراً جديداً يتشكل عنوانه أن الحقيقة لا يمكن لأحد ادّعاءها واحتكارها بعد اليوم.
أما فرنسوا بورغا فقد ربح المعركة كلها اليوم، وفي مقدّمتها المعركة الأخلاقية التي تحدد إنسانية الإنسان من عدمها، هذه المعركة الوجودية التي تلاشت قيمها داخل نطاق الحضارة الغربية، وكشفت لنا الأحداث أن الغرب تبدّى بغير ما تسوّقه شعاراته المعلنة عن الحقوق والحرّيات والكرامة الإنسانية، التي سقطت في أكثر من محطة اختبار حقيقي لها. وإبادة غزّة دليل آخر على موت الغرب حقيقة لا مجازاً، كما تنبأ بذلك باتريك بوكانان في كتابه "موت الغرب" وهو الموت الأخلاقي قبل الموت الديمغرافي.