فصول هَزليّة من كوميديا انتخابية لبنانية
ليست فصول المسرح اللبناني كلها مأساوية. خذْ انتخاب رئيس جديد للجمهورية. منذ شهرين، يحضر المقترعون النواب إلى البرلمان، كل يوم خميس واثنين في البداية، ثم كل خميس فقط، توفيراً للكهرباء ربما، أو للوقت الثمين الذي يمضيه النواب في خدمة "رعاياهم". عشر جلسات منحت اللغة العربية كنوزاً من الصفات والمواصفات، يمكن أن تنطبق على أي مرشّح في أي انتخابات، لرئيس جمهورية أو لرئيس بلدية أصغر قرية. فقد ظهر المرشَّح العلَني، أو الجدّي، أو التوافقي، أو الممَوَّه، أو المزْمن، أو المستهلَك، أو الصامت، أو الثرثار، أو البديل أو الوريث أو الشبَح أو المؤقت (ريثما...)، أو الميثاقي (الذي توافق عليه الطوائف "الكبرى")، ومرشّح النكاية أو الصفقة، أو للحرق، أو للتسلية، أو للاستهلاك، أو صاحب الرقم الصعب، أو المرشَّح رغماً عنه، أو السعودي - الأميركي، أو الإيراني. وأخيراً، المرشّح الأوفر حظاً، وهو، حتى الآن، مرشّح الورقة البيضاء، الذي يدير بها حزب الله هذه المعركة الانتخابية.
علينا التوضيح أن "مواصفات" المرشّحين هذه لا تتناقض. أي مرشّح يمكن أن يكون سرّياً وعلنياً. أو أن يكون مسلّياً وجدياً، رقماً صعباً ومزْمناً، مؤقتاً ووريثاً. ويمكن أيضاً أن تجد مرشّحين سريين وعلنيين، جدّيين ومستهلَكين، أو مرشّحين علنيين للورقة البيضاء .. إلخ. وقمّة التهريج بالمعاني على هذه الخشبة: أن الذي يدير المرشّح الورقة البيضاء، أي حزب الله هو نفسه الذي يصرّ، خارج البرلمان، على الرئيس "التوافقي"، أي الذي يحفظ سلاحه.
هكذا أمضينا ما يقارب الشهرين على اجتراع كل مواصفات المرشّح المتَخَيَّل لرئاسة الجمهورية. برلمان، وكلمات من هنا وهنا، وتلطيشات على هذا أو ذاك، وتسريبات من "مصادر" عن جدّية مرشح سرِّي، أو ضحكٌ على التصويت بعبارات ملغومة، تعتبر ملغاة ... ومؤتمرات صحافية، واجتماعات ومشاورات وحلقات تلفزيونية ماراثونية .. حتى جاءت "لحظة الحقيقة". حزب الله: بما أننا لن ننتخب رئيساً للجمهورية على المدى المنظور، فلنعقد اجتماعاً لمجلس الوزراء، "لتسيير الشؤون الصحية الملحّة"، وعبارات من أن نوع المحمّسين لهذا الاجتماع لا ينامون الليل من شدّة قلقهم على صحّة المواطنين.
حزب الله: بما أننا لن ننتخب رئيساً للجمهورية على المدى المنظور، فلنعقد اجتماعاً لمجلس الوزراء، "لتسيير الشؤون الصحية الملحّة"!
والقصد من هذا الاجتماع عصفوران: إزاحة المرشّح الوريث الجدّي غير الجدّي، جبران باسيل. ونجحَ الضغط، فانتفض جبران، هو المعني الأول بهذا الانعقاد، كونه يخطف بذلك صلاحيات رئيس جمهورية، وهو رأس حربتها، وقد تمتّع بها طوال عهد عمّه، بصفته وريثه البديهي في المقعد الأعلى، ولا يريد أن يخسره، وقد جنّد كل طاقاته الطائفية الشخصية الدولية الإقليمية لبلوغه. العصفور الثاني، هو شدّ السنّة إلى هذه المناورة، هم الذين يعانون "إحباطاً". وبما أن رئيس الوزراء الذي ينعقد هذا الاجتماع لمجلس الوزراء برئاسته سنّي، فإن هذا يعدّ دعماً للسنّة. وذلك عملاً بالقاعدة أن كل طائفة تنظر إلى الموقع المخصَّص لها أنه يمثل أبناءها، وعليهم الدفاع عنه. هكذا أكل السنّة الطُعم، وراحوا يبتهجون بهذه اللحظة "التاريخية" التي سترفع من أرقام النواب المقترعين لصالح مرشّح حزب الله في يوم من الأيام... ولكن التشفّي السنّي يغطّي عليه غضب جبران باسيل. كيف يحصل؟ كيف يحصل أن يُضرب الحليف الاستراتيجي المسيحي، بسلاح صلاحيات رئيس حكومة سنّي؟ فيطال صلاحيات رئيس الجمهورية المسيحي؟ أي الصلاحيات التي وعَد جبران نفسه بها؟
إنه تغيير في الوجْهة. ردّة فعل باسيل انفجارية. مؤتمراته الصحافية تتوالى، وإجاباته ورسائله من هنا وهناك، كلها تشي بأن الرجل يمرّ بأزمة خطيرة. ويأتي من يصف هذه الأزمة، على لسان الإعلام الحليف "المقاوِم". وقد استنفر للمناسبة كلمتين لا بد لهما في مناسبةٍ كهذه: أن حزب الله تجاهل المعركة "الوجودية" التي أصابت باسيل بعد الاجتماع الحكومي، وأن ما بعد هذا الاجتماع "لن يكون مثل ما قبله". فدخلت إلى قاموسنا مواصفات إضافية للمرشّح لرئاسة الجمهورية: المرشّح صاحب "أزمة وجودية"، المرشّح المُستغنى عنه، أو المفْروكة أذنه، أو المطعون. وآراء غاضبة من هذه "الطعنة"، ترثينا، بأن ما يحصل هو "انتفاء الحاجة إلى رئيس الجمهورية".
أمضينا ما يقارب الشهرين على اجتراع كل مواصفات المرشّح المتَخَيَّل لرئاسة الجمهورية
ما الذي يفسِّر كل هذا الغضب؟ كل هذه القوة بالغضب؟ هل كان لباسيل برنامج؟ مشروع؟ رؤية؟ ولا واحد من هذا كله. إنه فقط صاحب دور. وهو يقولها بلسانه عندما يرفع من حدّة لهجته ضد حزب الله: أنا صاحب دور، وأنتَ يا حزب الله صاحب دور. دوركَ حمل السلاح ودوري حمايته، مقابل أن "أُنتخب" رئيساً للجمهورية، مثل عمّي الرئيس السابق الذي وقع معكم اتفاقية مار مخائيل قبل 16 عاما. والاتفاقية كانت واضحة: سلاحكم مقابل رئاسة عمّي، وأنا من بعده. استطعتم أن تفوا بوعدكم له، رغم كل العراقيل. وها أنتم الآن مطلوبٌ منكم أن تستمروا بالوفاء بالوعد وتسلّموني رئاسة الجمهورية. وإلا راحَ اتفاقنا أدراج الرياح...
ولكن الحزب الآن لا يستطيع المضي بالصفقة نفسها مع جبران، كما فعل مع عمّه ميشال. القوى التي تعارضه من داخل السلطة لا تسمح له بالتصرّف بمفرده في تحديد من يكون رئيساً للجمهورية. ولا الاضطراب الإقليمي، أي صراع ملالي إيران مع الداخل والخارج، الذي لم يرسُ بعد على ميزان. في ظروفٍ سابقة "صمدَ" الحزب عامين ونصف العام من التعطيل، قبل أن ينصّب مرشحه ميشال عون. الآن مرشّحه "الصافي"، حافظ سلاحه، في هذه اللحظة، غير ممكن، وكذلك غير ممكن المرشّح النقيض، رافض هذا السلاح. فيما هو، أي الحزب، يهدُر بمرشحه، الضامن المسيحي الوحيد لسلاحه... وهو بذلك يضيف صفة على لائحة المرشّحين لرئاسة الجمهورية هذا العام: المرشَّح المستحيل.