فلسطين .. الانتقال من الدفاع إلى الفعل المبادر
منذ انهيار مفاوضات كامب ديفيد وانطلاق الانتفاضة الثانية في فلسطين عام 2000، وخصوصا بعد أحداث "11 سبتمبر" عام 2001، عملت الحكومات الإسرائيلية، وأذرعها من المنظمات الصهيونية، على شن هجومٍ متعدّد الجوانب على الحركة الوطنية الفلسطينية، غرضه نزع إنسانية الفلسطينيين ونضالهم، وتشويه صورتهم، ووضعهم على النطاق الدولي في موقف الدفاع، من خلال اغتيال الرواية الفلسطينية وتكريس الرواية الإسرائيلية، للتاريخ، والأحداث، والواقع برمته. وتركز الهجوم الإسرائيلي على خمسة محاور:
الأول، أن الفلسطينيين هم الذين يضيعون فرص الحل عبر التفاوض، وأن العروض الإسرائيلية لإقامة دولة فلسطينية قوبلت بالرفض الفلسطيني، لأن الهدف الحقيقي للفلسطينيين هو تدمير إسرائيل. والخبث العميق في مضمون هذا الطرح أنه يسعى إلى إلباس إسرائيل رداء الضحية، وجعل الفلسطينيين في موقع المعتدي. وعلى الرغم من أن الأمر يبدو جنونياً، عندما يتذكّر المرء أن إسرائيل هي التي تحتل أرض الفلسطينيين وليس العكس، وهي التي نفذت واحدا من أسوأ أشكال التطهير العرقي في القرن العشرين ضدهم، وأنها تمارس تجاه الفلسطينيين نظام الأبرتهايد الأسوأ في التاريخ البشري، وأن الساسة الإسرائيليين كافة دأبوا على رفض ومنع قيام دولة فلسطينية مستقلة، ولكن المنهج الإسرائيلي ترسّخ في الوعي السياسي والدبلوماسي العالمي، بل إنه دخل وعي المحيط العربي، عبر جهود التطبيع، وفي إطار تبريره.
الثاني، وسم النضال الفلسطيني بالإرهاب، ومقاومته الشعبية بالعنف، واتهام قادته بالتحريض، كلما تصدّوا ولو بالكلام، للاحتلال والأبرتهايد.
الأوساط الصهيونية تستمر في الهجوم على المناهج الدراسية الفلسطينية، لتغييرها ونزع السمات الوطنية عنها
الثالث، الهجوم على حركة المقاطعة (BDS) ووصفها، على الرغم من طابعها السلمي والحضاري، باللاسامية. وتمديد مصطلح اللاسامية، بعد احتكار اليهود الانتساب للعرق السامي، على الرغم من أن اليهود و كل العرب ساميون، ليشمل أي انتقاد لإسرائيل وسياساتها، أي الخلط المقصود بين العداء لليهود بشرا وانتقاد سياسات الحكومة الإسرائيلية ومكافحتها، والاحتلال الذي تمارسه، ونظام الأبارتهايد الذي أنشأته. ويعزّز هذا المحور بانتظام جعل إسرائيل وحكامها وحركتها الصهيونية فوق القانون الدولي، ومنح الحصانة لهم من المساءلة والمحاسبة.
الرابع، الهجوم على الأسرى الفلسطينيين وشهداء الشعب الفلسطيني، ووصفهم بالإرهابيين، حتى لو كانوا شهداء برصاص جيش الاحتلال وهم في بيوتهم ومدارسهم ومظاهراتهم الشعبية، أو خلال أكثر أشكال النضال سلمية. ومؤسفٌ أن هذا الهجوم تصاعد ليصل إلى إجبار البنوك المقيمة في فلسطين، والتي تجني أرباحها من الفلسطينيين، على إغلاق حسابات الأسرى، وليصل إلى درجة الضغط على السلطة الفلسطينية، لتغيير آليات دفع مخصصات الأسرى التي يستحقونها بكل جدارة، بتحويلهم إلى موظفين في وزارات وأجهزة، أو إلى حالاتٍ اجتماعية، في ما يمثل مسّاً بكرامتهم الوطنية وحقوقهم الإنسانية.
الصهاينة يهاجمون حركة المقاطعة (BDS) ويصفونها، على الرغم من طابعها السلمي والحضاري، باللاسامية
المحور الخامس، وهو ليس الأخير، الاستمرار في الهجوم على المناهج الدراسية الفلسطينية، لتغييرها ونزع السمات الوطنية عنها، مع تجاهل تام لكل التحريض العنصري الذي تنضح به المناهج الإسرائيلية، ووسائل الإعلام الصهيونية، وتفوّهات عدد كبير من الساسة ورجال الدين الإسرائيليين الذين لم يتورع بعضهم عن وصف الفلسطينيين "حشرات وصراصير".
ومن دون الاستمرار في شرح محاور أخرى للهجوم الصهيوني، لا بد من الإشارة إلى الآثار الخطيرة التي خلفها الهجوم الإسرائيلي في مختلف المحافل، ومنها إدراج الاتحاد الأوروبي خمس حركات سياسية فلسطينية وطنية في قائمة الإرهاب، وإقدام برلمانات أوروبية، كالفرنسي والألماني، على حظر المقاطعة، في اعتداء فظ على حرية الرأي والتعبير التي تمثل أساس الفكر الديمقراطي، ومحاولات فرض شروطٍ لتقييد التعاون مع مؤسّسات المجتمع المدني الفلسطيني، والتضييق على ميادين عمله. وتتولى ثلاث مؤسسات إسرائيلية، تديرها أجهزة الأمن الإسرائيلية، تنفيذ هجمات متتالية على المؤسسات الفلسطينية الرسمية والأهلية، وعلى مؤسسات الأمم المتحدة، ومختلف وكالات التنمية الدولية. وهي NGO Monitor وUN Watch وUK Lawyer، بالإضافة إلى الوزارات والسفارات الإسرائيلية وشبكات اللوبي الصهيوني، مثل لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (إيباك) وغيرها.
إسرائيل نفذت واحدا من أسوأ أشكال التطهير العرقي في القرن العشرين ضدهم، وتمارس تجاه الفلسطينيين نظام الأبرتهايد الأسوأ في التاريخ البشري
الهدف المركزي لكل هذه المحاور والمنظمات والهجمات هو تجريد الفلسطينيين من قدرتهم على الصمود والمقاومة ومن حقوقهم، بما في ذلك حقهم الذي يقرّه القانون الدولي والمعاهدات الدولية والأديان السماوية، في مقاومة الظلم والاضطهاد، ومحاولة سلبهم حتى حق التعبير عن الرأي، وإجبارهم على البقاء في مواقع الدفاع السلبي، من دون القدرة على القيام بمبادراتٍ هجوميةٍ ضد من يضطهدونهم ويحتلون أرضهم ويسلبون حقوقهم. ولا يمكن التصدّي للاستراتيجية الهجومية الإسرائيلية بالبقاء في مواقع الدفاع، والاستمرار في تقديم التنازلات، على أمل تخفيف حدّة الهجوم.
القانون الدولي، والقانون الإنساني الدولي، ومواثيق الأمم المتحدة وقراراتها، والتاريخ الإنساني، تعطي الفلسطينيين كامل الحق للانتقال إلى سياسة مبادرة هجومية، والإصرار الكامل على روايتهم، وعلى حقوقهم. وأهم عنصر في انتزاع زمام المبادرة الهجومية تعرية نظام الأبارتهايد والتمييز العنصري الإسرائيلي الذي أنجبه الاحتلال الأطول في التاريخ الحديث. والانتقال الفوري إلى بناء شبكات ضغطٍ مؤثرة، تلتحم بحركات التضامن مع الشعب الفلسطيني، ومنظمات المقاطعة، والقوى والعناصر التقدّمية ووسائل الإعلام في كل المجتمعات الأوروبية والدولية.
تحتاج المبادرة الاستراتيجية الهجومية المطلوبة إلى رؤية واضحة وراسخة، وتنظيم نشط مبادر، ومنهجيةٍ مثابرةٍ لا تترك مسؤولاً، أو هيئة، أو حزبا، أو حكومة من دون محاولة إقناعها بعدالة الرواية الفلسطينية. وذلك لا يمكن أن يتحقق بجهود الفلسطينيين وحدهم، بل من خلال إحياء وخلق شبكات التضامن، في عودة إلى ما كان تقاليد حركة التحرّر الوطني الفلسطينية، قبل أن تتعثر طاقاتها في غياهب اتفاقيات ظالمة، وسلطة تحت الاحتلال.