فلسطين بين لاهاي والمنامة: القمّة والنكبة
في توقيتٍ واحدٍ، انعقدتْ جلسةُ محكمةِ العدلِ الدوليّةِ ومؤتمر المنامة العربي، في ذكرى نكبة فلسطين التي أتمّتْ 76 عاماً، وأيّةُ مقارنةٍ موضوعيةٍ بين ما جرى في لاهاي وما تمّ في اجتماعِ البحرين تقول إنّ حضورَ القضيّةِ الفلسطينيةِ كان كاملًا في "العدلِ الدوليّة"، فيما كان جزئيًّا وجانبيًّا في "القمّة العربية" التي حلّت فيها مأساة غزّة بنداً ثالثاً في محفلٍ عربيٍّ ينعقد، مصادفًة، في ذكرى النكبة.
في لاهاي، كان وفدُ جنوب أفريقيا يقدّم للعالم وثائقَ وأدلةَ جريمةِ الإبادةِ الجماعية والتطهيرِ العرقي التي ينفذّها الاحتلال الإسرائيلي في غزّة، وفي المنامة كان رئيس السلطة الفلسطينية يندّد بهجوم المقاومة الفلسطينية على العدوِّ، الذي يحتل البلاد، في العام الماضي.
كان المتصوّر أنّ الخطابَ الرسمي العربي في ذكرى النكبة سوف يأتي مُركّزًا في بندٍ واحدٍ: تنظيم الصفوف وحشد القوى والطاقات العربيّة ضدّ الاحتلال الغاصب ورصّ الصفوفِ لنصرةِ الشقيق ودعمه بكلِّ الصور والسبل، لكن ما جاء في البيان الختامي، أو "إعلان المنامة" ينسفُ كلَّ التصوّرات، حين يردّد سريعًا العبارات المجفّفة عن ضرورةِ "الدعوة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لوقف إطلاق النار الفوري والدائم، وإنهاء العدوان في قطاع غزة، وتوفير الحماية للمدنيين، وإطلاق سراح الرهائن والمحتجزين". ثم "نجدد رفضنا الكامل وبشدة لأي دعم للجماعات المسلحة أو المليشيات التي تعمل خارج نطاق سيادة الدول، وتتبع أو تنفذ أجندات خارجية تتعارض مع المصالح العليا للدول العربية، مع التأكيد على التضامن مع جميع الدول العربية في الدفاع عن سيادتها ووحدة أراضيها وحماية مؤسساتها الوطنية ضد أية محاولات خارجية للاعتداء، أو فرض النفوذ، أو تقويض السيادة، أو المساس بالمصالح العربية"، وكذا "نؤكد التمسك بحرية الملاحة البحرية في المياه الدولية وفقاً لقواعد القانون الدولي واتفاقيات قانون البحار، وضمان حرية الملاحة في البحر الأحمر وبحر العرب وبحر عمان والخليج العربي، وندين بشدة التعرض للسفن التجارية بما يهدد حرية الملاحة والتجارة الدولية ومصالح دول وشعوب العالم".
هنا الحسم والشدّة في التحريضِ على كلِّ ما هو مقاوم للاحتلال في الخريطة العربية، أي فصائل المقاومة في غزّة، والتي يُصنّفها الخطابُ الرسمي العربي، بما في ذلك سلطة رام الله، بأنّها خارجة عن الإجماع الوطني، ولا تمثّل الشعب الفلسطيني، وأيضًا من يدعمها بالسلاح في جنوب لبنان واليمن، حزب الله وجماعة الحوثي، وهو ما يأتي في سياقِ الاستهدافِ المتواصل للمقاومة، على نحو أوضح من إدانةِ العدوان.
قبل يومٍ من اجتماعِ المنامة الذي يندّد بما يُطلَق عليها "الجماعات المسلحة والمليشيات"، كان رئيسُ حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، يعلن أنّه ليس مستعدّاً لاستبدالِ حكمِ "حماستان" بـ"فتحستان" في غزّة، مع التأكيد على رفضِه المبدئي إقامة دولة فلسطينيةٍ على أرضِ فلسطين. وفي التوقيتِ ذاته، كان وزير الخارجية الأميركي، الصهيوني أيضاً، أنتوني بلينكن، يقول إنّ على إسرائيل طرح خطةٍ واضحةٍ بشأن مستقبل غزّة، بما يعني أنّهما يتصرّفان ويتكلّمان واثقين من أنّه ليس لدى النظام العربي سوى موقفِ المتفرّج، الذي يتعجّل إتمامَ الاحتلالِ مهمته في محو غزّة والقضاء على المقاومة، ثم التفرّغ للنظرِ في التطبيع مع الأنظمة العربية التي تنتظر دورها في الصعودِ إلى قطار الشرق الأوسط الإسرائيلي.
لا يؤمنُ العربُ الرسميون بأنّ حلم الشعب الفلسطيني ومشروعه الوحيد في الحياةِ هو تحقيق حريّة الوطن وإنهاء احتلالِ العدوّ له، وليس التوصّل إلى صيغةِ احتلالٍ أقلّ عنفًا وهمجية، ينظر حوله فلا يجد العرب إلّا شركاء ووسطاء وحلفاء محتملين في المستقبل.
وحدها جنوب أفريقيا، ومعها نيكاراغوا وكولومبيا وأيرلندا ودول أخرى، لديها مقاربات ومواقف ناصعة في النظرِ إلى الصراعِ على أنّه قضيّة تحرّر وطني وكفاح مشروع ضدَّ احتلالٍ تكفله كلّ القوانين والقرارات الدولية، وهذا ما استمع إليه العالمُ أمس على لسان جنوب أفريقيا، وهي تخوضُ معركةً قانونيةً ودبلوماسيةً جديدة من أجل حقوقِ فلسطين وشعبها، وتذكّر العالم بمأساةِ النكبة الأولى التي تُعادُ الآن بإيقاعٍ أكثر وحشية.