فلسطين تلتهب تحت أقدام الاحتلال
ترافقت الذكرى التاسعة والعشرون لتوقيع اتفاق أوسلو هذا الأسبوع مع تصاعد في عمليات المقاومة الفلسطينية، وتوتر شمل كلّ الأراضي الفلسطينية، وتحريض إسرائيلي بشن حملات اقتحام عسكرية ضخمة ستنتهي إن حدثت حتماً بمجازر وحشية جديدة في محافظتي نابلس وجنين، وتهديدات باقتحامات خطيرة للمستعمرين المستوطنين للمسجد الأقصى في أثناء العطل اليهودية.
أذكر جيداً كيف استغرب كثيرون معارضتنا اتفاق أوسلو عندما وُقّع، وعندما كان مؤيّدوه يغرقون في أوهام المراهنة على حسن النيات الإسرائيلية، وفي أحلام تحوّل قطاع غزة إلى سنغافورة جديدة. ولم يحتج الأمر إلا لبضع سنوات حتى أدرك الجميع، بمن فيهم من جاهر بإدراكه، ومن تستّر عليه، أن اتفاق أوسلو لم يجلب سلاماً ولا حرية، ولم يكن سوى فخٍّ نصبته الحركة الصهيونية للقيادة الرسمية الفلسطينية، لامتصاص نتائج الانتفاضة الأولى، وكسب الوقت، لاستعادة زخم التوسّع الاستيطاني، ولإحباط الفلسطينيين وتيئيسهم ونشر الانقسامات بين صفوفهم، على أمل أن يرضخوا لتحويل فكرة الدولة المستقلة إلى مجرّد حكم ذاتي هزيل محكوم بالاحتلال والهيمنة الإسرائيليين.
من واجب الفلسطينيين إجراء المراجعة التاريخية للأخطاء التي حدثت والاعتراف بها، لتجنّب تكرارها في المستقبل
لم يكن الوقوع في فخّ أوسلو قدراً، خصوصاً بعدما سمع صانعوه تحذيرات قادةٍ كثيرين من الأراضي المحتلة بأن أخطر الأمور توقيع اتفاق مع إسرائيل من دون وقف الاستيطان بالكامل. وليس هدفنا الآن توجيه الملامات والانتقادات، ولكن من واجب الفلسطينيين إجراء المراجعة التاريخية للأخطاء التي حدثت والاعتراف بها، لتجنب تكرارها في المستقبل. وهناك سبعة أخطاء، على الأقل، اتسمت بها مفاوضات واتفاق أوسلو...
أولاً: توقيع الاتفاق من دون اشتراط وقف الاستيطان، والنتيجة واضحة، إذ ارتفع عدد المستعمرين المستوطنين في الضفة الغربية من 121 ألفاً إلى ما يزيد عن 750 ألفاً اليوم.
ثانياً: توقيع اتفاق مرحلي، جزئي، انتقالي ووقف الانتفاضة الأولى من دون تحديد النتيجة النهائية لوضع الأراضي المحتلة التي بقيت مفتوحة للتفاوض كان يجب أن ينتهي بعد ست سنوات، ولم يبدأ فعلياً حتى بعد مرور 29 عاماً. أي أن الإسرائيليين أتقنوا تحويل الوضع المؤقت، بكل عيوبه ونواقصه، إلى وضع دائم ما زال مستمراً ثلاثة عقود.
ثالثاً: القبول بتجزئة الضفة الغربية إلى مناطق أ، ب، ج، وحصر السلطة الفلسطينية في ما لا يزيد عن 18% من أراضي الضفة الغربية، أعاد الاحتلال استباحتها بالكامل منذ عام 2002. وتكمن خطورة الأمر في أن 62% من مساحة الضفة الغربية، بما فيها القدس، كُرّست بالكامل للتوسع الاستيطاني الاستعماري، وأصبحت ممنوعة على الفلسطينيين.
ما تشهده الأراضي المحتلة منذ عام 2015، أقرب ما يكون لحالة انتفاضة ثالثة من نوع جديد
رابعاً: اعتراف منظمة التحرير غير المتكافئ بحق إسرائيل في الوجود، من دون تحديد حدودها، ومن دون أن تعترف بالدولة الفلسطينية أو بحقها في الوجود.
خامساً: توقيع اتفاق باريس الاقتصادي الذي جعل الاقتصاد الفلسطيني، والضرائب التي يدفعها الفلسطينيون من عرق جبينهم، رهينة وأسيرة للاحتلال.
سادساً: القبول بعقيدة التنسيق الأمني مع الاحتلال، وهذه سابقة لم تحدث من قبل مع أي احتلال، عندما يُطالب الذين تحت الاحتلال بتوفير الأمن لمن يحتلهم، من دون أن يستطيعوا حماية شعبهم وأنفسهم من اعتداءات الاحتلال ذاته.
سابعاً: أنّ اتفاق أوسلو نفسه أصبح قاعدة وسبباً لأكبر انقسام سياسي داخلي، وبين الساحات الفلسطينية ومكونات الشعب الفلسطيني الثلاثة، في الداخل والخارج والأراضي المحتلة.
ما تشهده الأراضي المحتلة منذ عام 2015، أقرب ما يكون لحالة انتفاضة ثالثة من نوع جديد، تجري على شكل موجات متلاحقة، من المقاومة بكل أشكالها، سواء كانت عمليات فردية، أو هبّات واسعة للمقاومة الشعبية كما عشناها في هبة الأقصى عام 2017، ومعركة القدس عام 2021، أو ما نشهده اليوم من تمرّد شبابي على انغلاق الآفاق، وقمع الاحتلال، وشراسة نظام الأبارتهايد والتمييز العنصري الإسرائيلي، والتجاهل الإسرائيلي والعالمي، والتطبيع العربي، وآلام الشعب الفلسطيني ومعاناته.
لم يبقَ لدى الفلسطينيين البسطاء، وأبناء الشعب الفلسطيني ما يخسرونه، سوى قيودهم، وذلهم
يكتشف الكتّاب والمحللون الإسرائيليون، والمسؤولون الأمنيون، اليوم، ما كرّرنا قوله علناً، طوال السنوات السبع الماضية، أن فلسطين تغلي بالغضب، وتعيش حالة انتفاضة جديدة، وأن الإجراءات الإسرائيلية جعلت السلطة عاجزة، وأن الفلسطينيين، وخصوصاً الأجيال الشابّة فقدوا الثقة كلياً بما يسمّى "حل الدولتين" و"نهج المفاوضات" والمراهنة على تدخل أميركي، أو دولي، وفقدوا الثقة تماماً بمن يصرّ على المراوحة في أروقة هذه المراهنات. ويبدو واضحاً أن الشباب الفلسطينيين أعادوا اكتشاف ما اكتشفه آباؤهم من جيل الانتفاضة الأولى، أنه ما "حكّ جلدك مثل ظفرك"، ولا سبيل للخلاص سوى الاعتماد على النفس، وتنظيم الذات، وتحدّي ظلم الاحتلال.
ويخطئ جيش الاحتلال، وحكومته، مرة أخرى، عندما يلجآن إلى تكرار عقيدتهما، بأن ما لا يتحقق بالقمع سيتحقق بقمع أكبر، مكرّرين ما وصفه أينشتاين بالغباء، عندما يعيد الإنسان الفعل نفسه مراراً وتكراراً ويتوقع نتائج مختلفة.
لم يبقَ لدى الفلسطينيين البسطاء، وأبناء الشعب الفلسطيني ما يخسرونه، سوى قيودهم، وذلهم، ومعاناتهم خلال عقود من التطهير العرقي والاحتلال والتمييز العنصري، ولم يعودوا قادرين على احتمال هذا العذاب إرضاءً لأقلية من أصحاب المصالح، كما لم يعد ممكناً تخديرهم بأوهام جديدة اكتشفوا أنّها سرابٌ مضللٌّ منذ سنوات. ولذلك، تلتهب فلسطين بالنضال، رغم قمع الاحتلال أهلها وتنكيله بهم.