فلسطين حرّة "من النهر إلى البحر"
خبير فلسطيني في القانون الدولي، دكتوراة من جامعة جورج واشنطن، رئيس مجلس إدارة صندوق العون القانوني للدفاع عن الأسرى الفلسطينيين
هذا الشعار "From the River to the Sea, Palestine will be Free" الذي يردّد في المظاهرات الشعبية التي تجتاح العالم، بما فيه أكثر الجامعات الأميركية والبريطانية والفرنسية والألمانية أهمّية، أثار المخاوف والهواجس، و"العقد النفسية"، التي تسيطر على أقطاب التمييز العنصري، ومروّجي الإبادة الجماعية التي تمارسها عصابات المستوطنين في حقّ الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، ول اسيّما في قطاع غزّه. ذلك أنّ إزالة التمييز العنصري هو من أشدّ المخاطر ضرراً على المشروع الصهيوني المُسمّى "إسرائيل"، ففي دولة "الشعب اليهودي" لا يجوز أن يتساوى اليهودي مع غير اليهودي في الحقوق والواجبات، فالمساوات تُفقد الصهيونية مبرّر وجودها، بل مبرّر عنصريتها. ومن هنا جاء الرعب الذي يُحدثه الشعار، فيعتبرونه شعاراً معادٍ للسامية.
ومع ذلك، يؤكّد الواقع أنّ القيادة التاريخية لمنظمة التحرير الفلسطينية أعلنت رسمياً قبولها اقتسام فلسطين مع المستوطنين الصهاينة. ففي 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 1988، أعلن المجلس الوطني، المُنعقد حسب الأصول، قيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/ حزيران عام 1967، أي على 21% من مساحة فلسطين، وأكّد "إعلان الاستقلال" على أنّ القيادة الفلسطينية تعترف بأنّ قرار التقسيم (رقم 181 في العام 1947) "ما زال يوفّر شروطاً للشرعية الدولية"، أي سندها الشرعي في إقامة دولتها وقيام دولة المستوطنين، ثمّ جاءت اتفاقيات أوسلو (1993)، وهي اتفاقيات وإن لم تأتِ على ذكر "دولة فلسطينية" ولا على حدود دولتين؛ يهودية وعربية، إلا أنّه كان مفهوماً ضمناً، على الأقلّ للجانب الرسمي الفلسطيني، أنّ دولة فلسطينية سوف تقام على حدود 4 حزيران (1967)، هذا فضلاً عن أنّ بداية مسار "أوسلو" كان الاعتراف الرسميّ الفلسطيني، ليس فقط بـ"إسرائيل" دولةً، بل ذهب إلى أبعد من ذلك واعترف بـ"حقّ إسرائيل في الوجود"، وهي سابقة نادرة في الاعترافات الدبلوماسية (كما أنّها سابقة أن تعترف حركة بدولة)، إلا أنّ إسرائيل استطاعت تبديد هذا الوهم الذي وقر في ذهن القيادة الفلسطينية، التي ماز الت تحلم به كالشخص الذي يمشي وهو نائم.
ثم جاء الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية (2004)، الذي عرّف الأراضي الفلسطينية المحتلّة بأنّها تمتدّ من حدود 4 حزيران (1967) إلى الحدود الشرقية لفلسطين التاريخية، أي إلى نهر الأردن. وعلى هذه الأراضي سوف يمارس الفلسطينيون حقّ تقرير المصير، وتمسّكت القيادة الفلسطينية بهذا القول استناداً إلى المبدأ القانوني الذي يُحرّم اكتساب أراضي الغير بالقوة، وأنّ أيّ أرض محتلّة تظلّ لأصحابها الأصليين. وتبع ذلك عديد من البيانات والتصريحات الرسمية والدولية، التي تؤكّد أنّ الدولة الفلسطينية سوف تكون في حدود الرابع من يونيو (1967). وتمسّكت القيادة الفلسطينية بهذا التحديد، وأعلن الرئيس محمود عبّاس في أكثر من مناسبة، ومن على منصة الأمم المتّحدة أنّ حدود الدولة هي المناطق التي احتُلّت في العام 1967.
أخفق الكونغرس في استيعاب دوره في أن يكون الحارس الأول للدستور الأميركي، والتعديل الأول منه الأكثر أهمّية واحتراماً من المواطنين الأميركيين
ولكن، من الثابت رسمياً وعملياً أنّ إسرائيل هي التي ترفض اقتسام فلسطين مع الفلسطينيين، ليكون نصيب إسرائيل 22,000 كيلو متر مربع (78% من مساحة فلسطين) ونصيب فلسطين خمسة آلاف كيلو مترٍ مربعٍ. ولا أدلّ على ذلك من أنّ إسرائيل لا تزال تقيم المستوطنات لليهود حصراً في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، مع ما في ذلك من مخالفة صريحة لكلّ القرارات الدولية، والرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، وما زالت إسرائيل تنقل مستوطنيها إلى هذه الأراضي، وتغدق عليهم المال والسلاح، وتأمّن لهم المواصلات والكهرباء والماء والاتصالات، التي تربط مستوطناتهم بمثيلاتها في داخل إسرائيل، وذلك شكل من أشكال الضمّ والاستعمار. ثمّ أصدرت إسرائيل قانوناً في 2018 (قانون القومية) يُقرّر في مادته الأولى أنّ حقّ تقرير المصير حقّ حصري لـ"الشعب اليهودي"، يمارسه في كلّ "أرض إسرائيل"، أيّ أنّ ذلك يشمل كلّ فلسطين التاريخية، ويتجاوزها إلى ما وراء ذلك من أراضي الدول المجاورة. وهكذا، نزعت إسرائيل صفة الاحتلال عن "الأراضي المحتلّة" وأصبحت ملكاً خالصاً لـ"الشعب اليهودي". كما نزع القانون في مادته السابعة الصفة غير القانونية للمستوطنات وأسبغ عليها "الصفة الوطنية"، وفي هذا قلبٌ لكلّ مفاهيم القانون الدولي. إسرائيل ترفض تماماً أيّ حقّ للفلسطينيين في أرضهم التاريخية. وإذا كانت إسرائيل هي التي ترفض اقتسام فلسطين بينها وبين الفلسطينيين، الذين قبلوا هذه القسمة، وهي قسمة ضيزى على نحو مطلق، فلماذا إذن يلام الفلسطينيون إذا طالبوا بدورهم في استعادة كامل أرضهم التاريخية من النهر إلى البحر؟ وإذا كان الأمر واضحاً وثابتاً، فلماذا يصدر الكونغرس الأميركي في 17 من الشهر الماضي (إبريل / نيسان) قراراً يدين فيه شعار "من النهر إلى البحر.. ستكون فلسطين حرّة"؟ وتجدر الملاحظة أنّ الكونغرس لم يتخذ موقف الإدانة من قانون القومية الإسرائيلي الذي شطب حقوق أبناء الشعب الفلسطيني كلّها، الفردية والجمعية، أيّ حين سنّت إسرائيل قانوناً يعلن، عملياً، شعار "من النهر إلى البحر ستكون صهيونية"، لم يتخذ الكونغرس موقفاً، ولم يصدر قراراً يعلن فيه أنّ في ذلك تجاوزاً لحقوق الفلسطينيين، بينما سارع إلى إدانة الشعار حين كان في ذلك مساس بالصهيونية.
أخفق الكونغرس الأميركي المرّة تلو الأخرى في استيعاب دوره ومهمّته الأساسية، وهي أنّه الحارس الأول للدستور الأميركي، بما في ذلك التعديل الأول منه، الذي قد يكون الأكثر أهمّية واحتراماً من المواطنين الأميركيين، باعتبار أنّه يُقنّن بغيرة شديدة حرّية القول والرأي. هذه الحرية بالنسبة للمواطن الأميركي ترقى إلى مرتبة القداسة. ونلاحظ أنّ أيّ مواطن أميركي يستطيع أنّ يخاطب أيّ مسؤول من الرئيس إلى أصغر مسؤول في الإدارة الأميركية، وأحياناً يكون الخطاب حادّاً وبعيداً عن اللباقة، ومع ذلك، لا يستطيع أحد أن يعتقله أو يسكته، طالما أنّ النقد لا يتطاول على إسرائيل والصهيونية. ويتخذ الكونغرس قراراً يحرم المواطنين والمتظاهرين من إعلان شعارهم الجديد الدالّ على صحوة فكرية وعلمية: "من النهر إلى البحر، فلسطين ستكون حرّة"، لأنّها ستكون حرّة من الصهيونية، وهذا ما يرعب الكونغرس الأميركي الذي لا يبدي اعتباراً لمبدأ حرّية الرأي والقول. بل إن سلوك الشرطة الأميركية في التعامل مع طلاب الجامعات الأميركية وأساتذتها فيه خرق فاضح للتعديل الأول من الدستور. أيّ أنّ حرّية التعبير يجب أن تكون على مقاس الإبادة الجماعية والأبارتهايد لكي تحترم، حسب مفهوم الرئيس جو بايدن.
خبير فلسطيني في القانون الدولي، دكتوراة من جامعة جورج واشنطن، رئيس مجلس إدارة صندوق العون القانوني للدفاع عن الأسرى الفلسطينيين