فولكنر في "حكاية خرافية"
"عندما يكون القدرُ قد قرع آخر دقّات الحزن واختفى من تلك الصخرة التافهة الأخيرة المعلّقة جامدةً في المغيب الأحمر الأخير، سوف تُسمع ضجةٌ واحدة: هي صوتٌ صغير لا يكلّ للإنسان وهو ما زال يحكي". الجملة للأميركي ويليام فولكنر (1897 – 1962)، أحد أكبر روائيي القرن العشرين والحائز جائزة نوبل للآداب عام 1949، وقد يكون تجسيدها ظاهرا ومكتملا في روايته التي تحمل عنوان "حكاية خرافية"، ونال عنها جائزة بوليتزر للأعمال الخيالية، عام 1955، وكذلك الجائزة الوطنية للكتاب. في هذه الرواية، ابتعد فولكنر للمرة الأولى عن موضوعاته الأثيرة المتعلّقة بالجنوب الأميركي، راغبا في أن تكون أفضل أعماله، لا بل أفضل أعمال زمنه، وهي التي تدور أحداثها في القارّة الأوروبية، في فرنسا تحديدا، خلال الأيام الأخيرة للحرب العالمية الأولى (1914 - 1918). لقد دوّن عام 1948 ملاحظةً بشأنها حيث يقول: "إنها قصة المسيح في الجيش الفرنسي، عريف وفرقته المؤلفة من 12 جنديا يأتمرون بأوامره، مع قائد هو المسيح المضادّ سوف يرسل في طلبه ليقفا فوق قمة هضبة ليهديه العالم .. الحكاية رمزية وغير واقعية .. سوف يتم اختيار جثمان العريف ليكون الجندي المجهول. المسيح سيُبعث حيا في الجماهير".
يُقال إن فولكنر كان قد حلم شابـًا بالمشاركة في تلك الحرب طيّارًا، غير أن أمله خاب بشدّة، إذ وصل متأخّرا، لحظة انتهاء المعارك، فلم يتمكّن حتى من الخروج في مهمّةٍ أو من خوض أية معركة. ومع ذلك، راح لدى عودته يروي عن بطولاته الوهمية ضد الجنود الألمان. والحال أن الفرصة عادت وسنحت له أن يشارك لاحقا في حربٍ عالميةٍ ثانية، بشكل سلبي، منتسبا هذي المرّة إلى لجان الدفاع عن الأهالي والسكان. في عام 1944، باشر فولكنر تحرير روايته التي لم ينه كتابتها إلا بعد عشرة أعوام، أي في 1954، لتكون من ضمن آخر أعماله.
تجري أحداث الرواية التي تطلّبت كتابتـُها جهدا كبيرا، خلال أسبوع من شهر مايو/ أيار 1918، حيث يُعلَن عصيان في فرقة عسكرية تترك الخنادق خالية الأيدي، رافضةً أن تستمرّ في قتال من تعتبرهم، في الخنادق المقابلة، إخوةً في البؤس والشقاء، لا أعداء. وبالطبع، نحن هنا برفقة سرد عظيم، وأسلوب مركّب ومبدع في التعاطي مع موضوعٍ ذي نزعة إنسانوية بامتياز، وبالتحديد في ما يتعلّق بشخصية القائد العسكري، المسيح المضادّ، الذي يرغب بتصفية كامل الفيلق لكي ينتقم لمسيرته المهنية التي أُفسدت بسبب العصيان.
ولأن الحرب تقتضي وجود طرفين، يعامل الجنودُ الألمان "أعداءهم" بالمثل، فيتركون هم أيضا أسلحتهم، ويغادرون خنادقهم، فيسري العصيان كالنار في الهشيم، ويلتزم الجنود على كامل الجبهات بقرار رفاقهم، فتتوقّف الحرب! بهذه البساطة؟ بهذه السذاجة؟ أجل، لولا أن القائد الفرنسي العام لن يسمح بتوقّفها أكثر من ساعات، إذ يتواصل سرّا مع نظرائه، الألماني والانكليزي والأميركي، للبحث في كيفية إعادة إشعالها مجدّدا، فالحرب أمر حتميّ، جوهريّ، وهي لصيقة بطبيعة الإنسان وملازمة له، على ما يقول القائدُ العام للعريف ستيفان بعد اعتقاله. بالطبع، يعدم العريف الشاب ويرسل جثمانه إلى عائلته، ليُدفن في قبر الجندي المجهول. لكنّ موته لن يكفي حرّاسَ الموت، فها هم يعمدون إلى نسف قبره وتدميره بشكل كامل بنيران المدفعية. هذا وينهي فولكنر روايته القاتمة بانتقال روح العريف إلى جندي بريطاني سيقوم بدوره بمواجهة القائد الذي أمر بقتل ستيفان.
على غير ما أراد لها كاتبُها، لم يُجمع النقّاد على اعتبار "حكاية خرافية" من أهم أعمال فولكنر، بل ذهب بعضهم حدَّ اعتبارها "رواية سياسية فاشلة"، إلا أن صدى ما كتبته حنّة أرندت بصددها ما زال يتردّد في ظلّ الحروب التي تقضم وجهَ العالم حاليا: "كان ينبغي أن تمرّ ثلاثون سنة تقريبا قبل أن يظهر عمل فنّي يعرض بكل شفافية الحقيقةَ الداخلية للحدث، بحيث يصبح ممكنا القول: أجل، هكذا جرت الأمور".