فيرجينيا وولف والتأسيس لمعنى الكتابة
مروراً بكتابها الرائد "القارئ العادي" ("القارئ العام" في ترجمات أخرى)، ومن قبله مقالها "الرواية الحديثة"، في 1919، ثم "آراء في فن الرواية"، نحن أمام كاتبة تتأمّل كتاباتها وكتابات الآخرين بنباهة قارئ ملمّ، يتعذّب روحياً في سبيل إتقان حرفته وتأملها من خلال تاريخ الكتابة ومنجزها في قرون، وذلك ليس من خلال مهنةٍ نقديةٍ داخل أسوار الجامعة، للحصول على درجة وظيفية أو أستاذية في قسم بكلية، بل من خلال قناعةٍ روحية، وتأمّل عميق لطبيعة الشخصيات والأحداث ورصد الأجواء والمواضعات والقلاع والحصون والمعمار السائد ما بين القرية والمدينة وتحديثهما، كاتبة لا تعبُر أبداً الكتابة سهواً، مكتفية فقط بموهبتها الآسرة، ولكنها تلمّ بمجمل المنجز الكتابي وتتأمّله مراراً. وأحياناً تسخر من بلاهة الموهبة سخرية هادئة، وكأنّها تتهكّم على ألعاب عصافير خانتها الفطنة في أثناء عبور البحر، سخرية هادئة ورقيقة على طقوس الكتابة التي تحمل أطنان اليقين الصلب، من دون أن يعتريها أيّ شك.
بالطبع، تختلف القناعات الروحية من قرن إلى قرن وأحيانا من جيل إلى جيل، إلّا أنّ فطنة الكتابة مقام آخر وحساسية تحمل ذبذبات روح الكاتب، وكانت فيرجينيا وولف تحمل قدراً هائلاً من تلك الحساسية التي جعلتها في عداد المتفرّد، كتابة وتنظيراً، من دون معارك دامية في حقول النقد ودون حجارة أو سهام، مكتفية بكتاباتها وخيباتها ورحيلها الأليم.
الكتابة عند فيرجينيا ترتبط إلى حد كبير بمزاج صاحبها وتقلباته وتلك الأهوال التي مرت بأوروبا خلال حربيها، الأولى والثانية، كانت فيرجينيا تُنصت لدبيب الخراب في قلب القارّة وقلب النخب المهيمنة مجتمعياً، والتي كم هلّلت للحرب وما تزال، حتى وصل مصير القارّة إلى حافّة الخراب، وصار جسدها الرقيق وكأنه هو المستهدف كرمز أو كقربان، فداء لروحها المعذّبة على الأقل، فمشت إلى الموت هادئة، للماء وحده، مبتعدةً عن النار، هل يعيد العالم الآن مرّة ثانية تلك الأهوال التي ذاقتها هي من قرن؟
لكلّ كاتب بالطبع مهارته في ملء الصفحات وفقا لما وصل إليه من قاموس الكلمات الذي يملكه، ووفقا لما وصل إليه من عبقرية البناء والحبكة وتحريك الشخصيات على الورق، مهارة عرقٍ وكدٍّ وثقافةٍ ومعرفةٍ ومناطحةٍ مع الفن سنوات. نظرت فيرجينيا إلى عالم الكتابة كجرّاحٍ يحبّ المهنة، ويتفرّج على موظفيها وأطقم عملياتها وباقي معارفها الأخرى في تأمّل النبهاء المخلصين. وكأنها قفزت إلى قرن إلى الأمام، بعيدا عن زحام المهنة، كي تكتب أطيافها التي تخاتلها أو تراها فجأة وتهرُب منها، لكنها لا تستطيع أبداً الفكاك منها، وكأنها ذلك الكابوس الجميل الذي سوف يحكي لها كلّ شيء بطريقتها هي، لا وفقاً لما كان رائجاً في المهنة، مهنة الكتابة آنذاك. الحقائق لديها، إن كانت هناك حقائق، أو مشاعر، أو تأمّل لمشاعر، هي أشياء متداخلة ومتصارعة، وأحياناً تكون متناقضة، وبها لوعة ما تمسّ الكتابة في صميمها. الكتابة لديها ليست تراكم غلال في صوامع الكاتب، بل أقرب إلى ظلال أو بقايا أحلام تم تهشيمها من دون التنكّر أبدا لجدوى الإحساس والشغف المحموم، من دون الوصول إلى غاية كما تفعل الكتابات العادية.
كانت عين فرجينيا وولف وكأنّها مصوّبة ناحية الظلال، ظلال الحكاية، وظلال الشخصيات، وظلال الأحداث أيضاً من دون يقين قاطع بالإمساك بأول الخيط، إذ لا خيوط تُمسك بها، فكلّ الخيوط لديها غير متماسكة وغير منطقية. كانت فيرجينيا وولف تهوى المفاجأة للشخصية، وإعادة محاولتها لفهمها، كما حدث مع شخصية السيدة براون، فهل مسكتها، أم تركتها على قارعة طريق، كي يلحقها كل من يحاول الإمساك بتلك السيدة في ذلك القطار. وقد تكون براون شخصية حقيقية، أو تم اختراعها. وقد تكون أطياف براون هي أطياف فرجينيا وولف الهاربة منها وتنتظرها من سنوات على حافّة النهر، حتى التقت بها في الماء بعد الغرق، وقد ارتاحت من أهوال العالم والناس والحروب ووجع الكتابة.
هل كانت فيرجينيا ساعتها تدرك أنّ الكتابة هي الأخرى مجرّد حربٍ ليست على أبواب أوروبا فقط، بل على أعتاب بيتها وغرفتها الوحيدة "مجازا"، وقلبها فائق الحساسية، حرب غير مضمونة العواقب، حرب ما بين الواقع والخيال، ما بين الموت غرقاً أو تحت القنابل، حرب لا تدرك كيف يتم نسج خيوطها، وأين، كالكتابة تماماً، كذلك الألم الذي ظلّ محدقاً بها قبل أن تلقي نفسها للماء في صحبة أخيرة لبعض أحجارٍ أثقلت جيوبها كي تساعدها على الغرق.