فيلم عن فايزة أحمد
يعيد تلفزيون العربي 2، منذ أسابيع، بثّ حلقاتٍ من أحد مواسم برنامج الزميل بلال فضل "الموهوبون في الأرض"، والذي يعدّ مدوّنةً حكائيةً وتلفزيونيةً شائقةً، في سير فنانين عرب (مصريين خصوصا) عديدين. وإلى جهده في البحث في أراشيف غزيرةٍ لإعداده مواد الحلقات، فإن فضل غالبا ما يختم الحلقات بقفلةٍ منه، أشبه بخلاصةٍ أو حكمةٍ أو خاطرةٍ. وأظنّه أصاب، في خاتمة حلقتَيه عن فايزة أحمد، لمّا تمنّى إنجاز فيلم سينمائي عنها، يكون "مليئا بالإنسانية"، مع عدم تفضيله (ساخرا) أن يصنعوا عنها مسلسلا. وأشار إلى أن أفلاما أجنبيةً كثيرة أُنجزت عن فنانين ومعاناتهم في طريق الفن والحياة. وثمّة أكثر من سببٍ لوجاهة هذا كله، أولها أن حياة فايزة أحمد، على قِصرها نسبيا (توفيت عن 49 عاما في 1983) غنيّة بالدراما، ما يجعلها مغريةً للسينما. والأرجح أن بؤس أغلب المسلسلات التلفزيونية التي صُنعت عن مغنين وفنانين عرب، أو ضعفها، وقلة الانجذاب إليها، هو ما دفع السيناريست بلال فضل "يتحفّظ" على أن يفعلوها ويصنعوا مسلسلا عن صاحبة "حمّال الأسية". وفي البال فشل المسلسلات "العندليب" (2006) عن عبد الحليم حافظ، و"السندريلا" (2006) عن سعاد حسني، و"أبو ضحكة جنان" (2009) عن إسماعيل ياسين، وكذا عادية "كاريوكا" (2012) عن تحية كاريوكا. وإنْ في البال أن "أم كلثوم" (1999) كان على سويةٍ من الإتقان، وبدرجةٍ أقلّ "الشحرورة" (2011) عن صباح.
مفارقةٌ أن السينما العربية، وعمرُها نحو مائة عام، لم يُنجَز فيها عن أهل الفنون سوى أربعة أفلام (بحسبة الكاتب وظنّه)، "ألمظ وعبده الحامولي" (وردة الجزائرية، إخراج حلمي رفلة، 1962)، و"سلطانة الطرب" عن منيرة المهدية (شريفة فاضل، إخراج حسن الإمام، 1979)، و"كوكب الشرق" عن أم كلثوم (فردوس عبد الحميد، إخراج محمد فاضل، 1999)، و"حليم" عن عبد الحليم حافظ (أحمد زكي، إخراج شريف عرفة، 2006). فيما نجوم الفنون ومبدعوها بلا عدد، من مصر وغيرها، وسير كثيرين منهم تتوفّر على ما يغري ناس الإنتاج السينمائي إلى صناعة أفلامٍ جذّابةٍ إذا تسنّت لها نصوص قوية وتأهّل لها مخرجون نابهون. وفي البال إن فيلما عن بليغ حمدي تردّد منذ نحو عقدين أنه قيد الإعداد، ثم توقفت الأخبار عنه. وربما زوابعُ أسر الفنانين الذين تنكتب سيرُهم في سيناريوهاتٍ سينمائيةٍ (وتلفزيونية)، واشتراطاتهم الاطّلاع المسبق على النصوص، وتهديداتهم بالقضاء، من أسباب النأي الظاهر عن هذه الأفلام. ومثالا، ذاع أن نجل وردة، رياض القصري، أعطى لنفسٍه حقّ النقض على أي فيلم عن بليغ بشأن والدته. وفيلمٌ عن فايزة أحمد إذا قيست عليه هذه المساطر البائسة لن يقترب أحدٌ من التفكير في صناعته أبدا.
تقيم سينما السير الذاتية في مواقع طيبةٍ في السينمات الأميركية والأوروبية، وليس تشرشل وستالين وتاتشر وكينيدي وكاسترو وديغول (وغيرهم) وحدهم من شوهدت سيرُهم في أفلامٍ عديدةٍ تباينت مستوياتها، بل شوهدت أيضا قصة أيقونة الفرنسيين في الغناء، إديث بياف، في فيلم حمل اسم إحدى أغنياتها "الحياة الوردية" (2007)، وهي التي ماتت عن 47 عاما، وتشابهت مواضع في حياتها مع مقاطع من حياة فايزة أحمد. كما شوهدت سيرة المغنية النجمة داليدا في فيلم عنها حمل اسمَها نفسه (2017)، وقد انتحرت عن 54 عاما. وعن نجمة فيلم "ساحر أوز"، المغنية والممثلة الأميركية غودي غارلند، جاء فيلم "غودي" في 2019، وقد توفيت عن 47 عاما، وكما فايزة، عانت كثيرا وتزوّجت خمس مرّات. ويُنجز فيلم عن العازفة والسيناريست والممثلة الأميركية، لوريتا لين (90 عاما) في حياتها، يأخذ اسم اغنية لها "ابنة عالم المنجم" (1980). .. وهذه أمثلةٌ مختارةٌ بتعجّل، لنجماتٍ نساء، ثمّة ما يحتاج صفحاتٍ للإشارة إلى عشرات الأفلام عن غيرهن، رجالا ونساء.
أما صاحبة أكثر من ثلاثمائة أغنية (ست الحبايب، مثلا)، صيداوية المولد، فايزة أحمد، كما غيرها ممن تعبوا وعانوا وأبهجونا بفنونهم، لن يكترث أحدٌ بكدّها، ولا بما سمّاها بلال فضل "عذاباتها الشخصية"، وهي التي كانت شخصيّتها مطبوعةً بالقلق والتحسّب والتوتر (مشاحناتها في الوسط الفني كثيرة ومثيرة ..)، وبالخوف والحذر، وقد حُرمت من حنان الأب مبكرا وحُرم أولاد لها من حنانها تاليا. حاولت إثبات موهبتها في إذاعة دمشق، ثم في إذاعة حلب، قبل أن تجرّب بعض الحظ في العراق، ثم ترتحل إلى عاصمة الأضواء، القاهرة، ليحلّق صوتها مع ألحان محمد الموجي وبليغ حمدي، ثم محمد عبد الوهاب وزوجها 17 عاما محمد سلطان وغيرهما، بل ولتؤدّي الغناء والتمثيل في ستة أفلام أيضا .. والتفاصيل كثيرة، وقد جاء بلال فضل على وفيرٍ منها، فيها المؤسي والمُفرح، قبل أن يختم بقفلته المحقّة عن فيلمٍ مأمولٍ عن المغنية السورية المصرية الشهيرة.