في أحداث قيصري التركية السورية ورسائلها
لم يكن مشهدُ العنفِ في مدينة قيصري (وسط تركيا) تجاه السوريين أمراً عابراً، ولا هو ردّة فعلٍ على حادثة فردية (تبيّن زيفها)، وليس مشهدُ طرد امرأة سورية من الميترو بعنف، مع ابنتها اليافعة وطفلها، مشهداً مألوفاً في أنحاء العالم، باستثناء الأماكن التي تَشهَدُ توتّرات إثنية ودينية، كما هو الحال في بعض مناطق الهند بين الهندوس والمسلمين، وبين الهندوس والمسيحيين، وفي ميانمار؛ حيث الاضطهاد الديني الهندوسي ضدّ المسلمين بلغ مستوى عالياً.
لن يدخل هذا المقال في توصيف طبيعة الشعب التركي النابذة للاندماج مع الآخر، كما أظهرت الأحداث في تركيا تجاه العرب عموماً، والسوريين خصوصاً، وقبلها تجاه الأكراد، وما أظهرته أيضاً الصعوبات الكبيرة التي واجهتها وتواجهها ألمانيا في عملية إدماج الأتراك الموجودين في أراضيها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية (استعانت ألمانيا بالعمالة التركية لإعادة البناء)، وما زالت.
لا توجد في تركيا عوامل موضوعية وراء سبب هذا الكره والاستياء تجاه السوريين، فلا عددهم يُشكّل تهديداً وجوديّاً للأتراك (ثلاثة ملايين ونصف المليون، في مقابل أكثر من 80 مليون تركي)، ولا المساحة الجغرافية تُشكّل عاملاً موضوعياً، بحيث يمكن القول إنّ الضيق الجغرافي والكثافة السكانية للسوريين في بقعة جغرافية لعبا دوراً في ذلك. ولا العوامل الاقتصادية أيضاً، فتركيا حصّلت وتحصّل مليارات الدولارات من الاتحاد الأوروبي من أجل إبقاء السوريين في أراضيها، وتهيئة شروط الحياة المقبولة لهم، وقد بيّنت السنوات العشر السابقة، وبأرقام تركية رسمية، أنّ السوريين لم يشكلوا عبئاً على الدولة، إذ أقام السوريون عشرات آلاف المصانع الكُبرى والمتوسّطة، والورش والمحالّ التجارية، بأموالهم وخبرتهم، وأسهمت في إيجاد فرص عمل لغالبية العمالة السورية.
بيّنت السنوات العشر السابقة، وبأرقام تركية رسمية، أنّ السوريين لم يشكلوا عبئاً على الدولة التركية
يكمن السبب الحقيقي للمشكلة في الدولة والمجتمع السياسي التركي. ثمّ في طبيعة الشعب الانطوائية تجاه الآخر، وليس بسبب الأوضاع الاقتصادية المُتراجِعة. رغم عمر الديمقراطية الطويل في تركيا مقارنةً بمحيطها الجغرافي، لم تنشأ تقاليد ديمقراطية ليبرالية وقانونية عريقة تحول دون حدوث انزياحات سياسية لها آثار اجتماعية، كما هو الحال في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية. في الحالتين الأوروبية والأميركية، على سبيل المثال، لا تتغيّر سياسات الدولة تجاه قصايا الهجرة واللجوء بشكل حادّ وعنيف، مهما كانت توجّهات الحزب المُسيطِر، بسبب وجود مؤسّسات راسخة، وتقاليد ثقافة سياسية عريقة. ولذلك، لا تسمح هذه الدول للشعب، أو لفئة منه، بحرّية التصرّف تجاه المهاجرين واللاجئين على هواهم ورغباتهم، بما يتجاوز حدود القانون وحقوق الإنسان.
يشير هذا المثال إلى حالة الدولة التركية، التي ترفض في مستوى الخطاب الإعلامي السلوكيات الهمجية للأفراد ضدّ اللاجئين، وخطابات المعارضة المُحرِّضة، لكنّها عملياً شبه مستقيلة حيال ما يجري، فأحداث العنف تجاه السوريين مُستمرّة منذ ثلاث سنوات، وبشكل متصاعد. يعود ذلك إلى أن حزب العدالة والتنمية (الحاكم) لا يريد الظهور بمظهر المُعارِض لتوجّه شعبي أصبح شبه عامّ تجاه السوريين. ولهذا، أعطى هامشاً للبلديات بالتحرّك وفق ما تراه مناسباً، حتّى إن جاء ذلك على حساب القانون ومصالح اللاجئين، وغضّ النظرِ عن السلوكيات المجتمعية العنيفة والمُقزّزة تجاه اللاجئين.
ساهم تساهل السلطات التركية تجاه الحالات الفردية العنصرية في تصاعد السلوكيات العنصرية، وحوّلها من النطاق الفردي الاستثنائي إلى النطاق الجمعي. وليست أحداث مدينة قيصري، وبعض المدن الأخرى، إلا تتويجاً لهذا التساهل، وربّما بدايةً لتوسّع هذه الظاهرة في المستقبل. لقد استخدمت المُعارَضة، وخصوصاً حزب الشعب الجمهوري، ورقةَ اللاجئين لمحاربة "العدالة والتنمية"، وتقاطع مع الحملة الإعلامية للمُعارَضة، تراجع الأوضاع الاقتصادية، من جهة، ونشوء سرديّة مجتمعية مفادها بأنّ للسوريين دوراً في هذا التراجع، من جهة أخرى.
ساهم تساهل السلطات التركية تجاه الحالات الفردية العنصرية في تصاعد السلوكيات العنصرية، وحوّلها من النطاق الفردي الاستثنائي إلى النطاق الجمعي
تَظهر هشاشة حزب الشعب الجمهوري واضمحلاله في الردّ الذي عرضه الحزب على موقعه ضدّ اتهامات الرئيس التركي للمُعارَضة بتأجيج الشعب، فقد حملّ "الشعب" الرئيس التركي المسؤولية عما يجري بناءً على هذه المعطيات؛ انهارت سياسة تركيا المُتعلّقة بسورية واللاجئين وأفلست، وجعلت الحكومة تركيا أسيرة هذه الأزمة مثلما عجزت عن حلّ الأزمة السورية المُتسبّبة بهذه الأزمة؛ وتجاهل الرئيس أردوغان المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والديموغرافية الناجمة عن أعداد اللاجئين المتزايدة في تركيا، ولم يُبادَرْ إلى حلّ أيّ من هذه المشكلات. من المدهش أن يكون تبرير "الشعب" أزمة اللاجئين السوريين المُختَلَقة بهذه العمومية.
لقد أصبح ملفُّ اللاجئين السوريين الملفَّ الأولَ في السياسة التركية الداخلية. وربّما لهذا السبب، ثمّة توافق بين السلطة والمُعارَضة على أنّ إنهاءه لن يكتب له النجاح إلّا عبر النظام السوري. لكنّ الطريق نحو دمشق ليس سهلاً، بل تتخلّله عقبات كأداء، إن كان في مستوى المصالح غير المتطابقة بين الجانبَين، أو في مستوى القوانين الدولية. وحتّى اتضاح طبيعة المشهد السياسي المُقبل بين تركيا وسورية، فالثابت أنّ تركيا تتّجه نحو الخروج من معادلة العداء للنظام السوري.