في البحث عن مخترع الكهنوت الانقلابي
الذين يتحدّثون عن الدين باعتباره معطلًا للتطور السياسي والاجتماعي والديمقراطي هم الأكثر استخدامًا للدين في تسويق الجنرال عبد الفتاح السيسي سياسيًا، بوصفه معطى سماويًا، وليس منتجًا بشريًا لهذه الأرض وهذه البيئة السياسية والاجتماعية.
كلهم يردّدون مقولة واحدة بلغاتٍ ولهجاتٍ مختلفة، لكنها متفقة في المضمون والنص: السيسي هدية الله .. تسمعها من حاخام صهيوني، كما تسمعها من قس مسيحي وشيخ مسلم، بالأداء ذاته الذي تنطقها به فريدة الشوباشي، اليسارية الناصرية المتطرّفة، وفاطمة ناعوت، العلمانية التنويرية (الفالصو) وجيهان السادات، الذاكرة الصديقة للبيئة، التي تنشط في إعلان الولاء لكل رئيس جديد، فتمنحه قبعة أو عباءة من إرث زوجها، وكذلك تسمعها من عزمي مجاهد، لاعب الباسكت الراحل، الذي قفز عاليًا، بعد انقلاب 2013 ونزل على محطّة تلفزيونية، مذيعًا ومقدم برامج سياسية، وأيضًا تسمعها من فناني مسرح وسينما، وممثلين فيما يسمى مجلس النواب.
اللافت أن التركيز على إظهار السيسي شأنا إلهيا لا يشتعل إلا في الأوقات الصعبة، والمناسبات التي تحيي ذكريات الدم والخراب في رؤوس المصريين، كما هو حاصل في محطة ذكرى الثلاثين من يونيو/ حزيران، حيث تهبط فريدة الشوباشي، أكبر الأعضاء المعيّنين في برلمان السيسي سنًا، على سطح محطةٍ فضائية، معلنة أن "الرئيس عبد الفتاح السيسي هدية الله للدولة المصرية". وكما نشرت أخبار اليوم، قالت الشوباشي، خلال حوارها مع برنامج "3 ستات" على قناة "صدى البلد"، إن المرأة حظيت في عهده بتمثيل قوي في مجلسي النواب والشيوخ، والنيابة والقضاء، "بعد أن عانت من الثقافة الوهابية الصفراء الصحراوية، وهى ثقافة أصحابها جهلة".
ومثل قول الشوباشي، ينطلق الهتاف ذاته "السيسي هدية الله" من فاطمة ناعوت، التي أمضت سنوات من عمرها في العمل، بالسعودية، في كنف "الثقافة الوهابية"، التي أصحابها جهلة، وفق مذهب المجددة الدينية فريدة الشوباشي، فتكتب ناعوت "مثلما أرسلَ لنا اللهُ الفريق عبد الفتاح السيسي، فارسًا جسورًا، لكي يُخلّصنا، نحن المصريين، من "وباء الإخوان" المُدمِّر، ثم يرمِّمَ صدوعَ الوطن وينهض به من كبوته، أهداه لنا حاكمًا واعيًا لكي يخرجَ بنا من "جائحة كورونا" بأقل خسائر ممكنة بإذن الله تعالى".
بعيدًا عن أن ناعوت دأبت على تسويق "السيسي هدية الله" باعتبارها معجزة كونية، تتوصل إليها في ذكرى الانقلاب كل عام، فإن الثابت تاريخيًا أن الصراع على حق ملكية هذا الاكتشاف ينحصر بين طرفين، هما السيدة جيهان السادات، أرملة الرئيس الذي استدعاه السيسي في حلمه القومي الأول "الساعة الأوميجا" والطرف الثاني تمثله مجموعة حاخامات الكيان الصهيوني استقبلوا انقلابه بحفاوة.
بالبحث عن جذور عبارة "السيسي هدية الله"، يأتي تصريح جيهان السادات في سياق الدعاية الانتخابية للجنرال عام 2014 والذي نشرته CNN، وأكدت فيه أنه هدية الله لمصر. في العام ذاته، اعتبر الحاخام يوئيل بن نون، أبرز حاخامات المستوطنين اليهود في الضفة الغربية، أن تولي عبد الفتاح السيسي الحكم في مصر قد مثّل بالنسبة لإسرائيل أهم "معجزة" في العقود الأخيرة، مشيرًا إلى أنه أقرب إلى إسرائيل من الأميركيين، ولولاه لضاعفت "حماس" مخزونها من الصواريخ.
فيما بعد، في العام 2015، حين أعلن السيسي من أسيوط حرصه على حياة الشباب الصهيوني، كتبت صحيفة جيروزاليم بوست، الصهيونية، "إنه هدية خاصة لدولة إسرائيل، أحيت أمل إسرائيل في إنقاذها من العزلة الدولية التي كانت تهددها".
بعد ذلك، صارت العبارة أشهر من نغمة هاتف جوّال، تسمعها عند المذيع عزمي مجاهد، في مارس/ آذار 2016، مغلفة بكميةٍ من الأيمان المغلّظة "والله العظيم الرئيس السيسي هدية من ربنا للشعب".
ثم تسمعها مجدّدًا عند المذيع ذاته في 2019 وقبل رحيله بكورونا، وقد تحوّلت إلى "الرئيس السيسي مش هدية من السماء فقط لمصر ولكنه للكرة الأرضية والله العظيم".
تتدحرج العبارة ذاتها، من سيف الإسلام القذافي وكاتبة كويتية، والممثل أحمد ماهر (يعلنها من كربلاء) والممثل سامح السريطي يعلنها من سور نادي الزمالك، وماجد فهمي، رئيس بنك التنمية الصناعية الأسبق، وحفنة من نواب البرلمان، ثم مع القمص يوحنا إسحق راعي مطرانية فاقوس، وهو يحشد المواطنين للمشاركة في الاستفتاء علي التعديلات الدستورية بـ"نعم للسيسي" عام 2019.
وقبل الجميع، يأتي أستاذ الفقه المقارن في كلية الشريعة والقانون في جامعة الأزهر، سعد الدين الهلالي، الذي قال، في حفل ساهر نظمته وزارة الداخلية عام 2014، "ابتعث الله رجلين، كما ابتعث وأرسل من قبل موسى وهارون، وأرسل رجلين، ما كان لأحد من المصريين أن يتخيّل أن هؤلاء من رسل الله، وما يعلم جنود ربك إلا هو"، في إشارة منه إلى وزيري الدفاع، عبد الفتاح السيسي، والداخلية، محمد إبراهيم.
صحيحٌ أنه لم يستخدم عبارة "السيسي هدية الله"، لكن ذلك لا يمنع أنه الأحقّ ببراءة الاختراع، ويستحق عن جدارة لقب "زعيم تنظيم الكهنوت الانقلابي" الذي يتشارك فيه مثقفون مدّعون للاستنارة وحاخامات وقساوسة وممثلو الأدوار الثانية في الدراما المصرية.