في البدء، كان الفراغ
يستحيل ألا تبدّل قراءةُ الكتاب عالي المبيعات عالميًا، "التكوين، قصة كيف بدأ كل شيء"، لعالِم الفيزياء الإيطالي غويدو تونيللي، نظرتَنا إلى الكون، وموقعنا فيه كائناتٍ هشيشة يضاهي وجودُها وجودَ حشرة صغيرة جدا في هذا الوجود الشاسع اللانهائيّ. وقد يصحّ القول، بعد مطالعة هذا العمل الاستثنائي الذي يتوجّه إلى العامّة أكثر من مخاطبته الخاصّة، إنّ العلم هو ربما السبيل الأوحد لسبر الحقائق التي ما فتئنا نبحث عنها، نحن البشر، متوسّلين كل ما أعطي لنا من مقدرات للاستيعاب والفهم.
على السؤال الأصلي، الجوهريّ، الذي يتعلّق بحكاية الوجود وقصة التكوين واللحظة التي سبقت وتلت انبثاقَ الوجود (بينغ بانغ)، يسعى رجلُ العلم، الذي كان من بين من اكتشفوا جُسيْمات Higgs boson، إلى الإجابة، وذلك عبر اعتماده أسطورة الخلق الرائجة والتركيز على سبع "لحظات" أو أيام تختصر لحظة انبثاق الكون، تليها ولادة الحياة، انتهاء باختراع اللغة. ماذا كان يوجد قبل الانفجار الكوني الكبير، يسأل تونيللي مثله مثلنا، قبل أن يجيب، على منوال القديس يوحنا: في البدء، كان الفراغ (وليس الكلمة)، مع تصويبه السؤال المطروح بشكل خاطئ برأيه، إذ إن الفضاء/ الزمن والمادة/ الطاقة ولدا مع الانفجار الكبير. بيد أنه فراغ غير فارغ، أي أنه ليس عدمًا أو فوضى، كما تميل الحضارةُ الغربية إلى اعتباره، هي التي تكره الفراغ وتراه سلبيا ومخيفا. فإذا أعملنا المخيّلة، يصير ممكنا تخيّل الفراغَ حالةً ماديّة ذات مزايا رقمية كمّية، هي صفر طاقة، وصفر دفع، وصفر شحنة كهربائية. والصفر هنا لا يعني الموات، كونه حالة تتّبع القوانينَ الفيزيائية حيث توجد تقلّبات أو تذبذبات كمّية.
لقد وقع الانفجار الكوني الهائل مجانا، بشكل عجائبي، في جزءٍ من الثانية يصعب احتسابها لسرعتها، وقد سمّاها تونيللي "اليوم الأول"، تلاها في "اليوم الثاني" انبلاجُ كونٍ طفلٍ، مثالي، متجانس، بسيط وأنيق، كان من الممكن أن يبقى ثابتا، متناغما، وحزينا، أشبه بكرةٍ مثاليةٍ تتطاير في داخلها الجسيمات بسرعة الضوء، من دون أن تتمكّن من إنتاج مادّة ثابتة، ملموسة. وحده وقوع كارثة سبّبها ابترادُ الكون في أثناء توسّعه، وتجمّد جسيماتٍ معينةٍ هي جسيمات هيغز بوزوم وتفاعلها واصطدامها بالجُسيمات والجزيئات الأخرى، ما جعل تكوّن المادة ممكنا.
وإذ يتساءل تونيللي عمّا جعلنا بشرا، نحن الذين نجهل من كان أوّل من قرّر اختراع لغةٍ يخاطب بها مجموعة صغيرة، وإن كانت تلك اللحظة حماسية احتفالية، أم وسيلة عزاءٍ إثر وقوع كارثة كبرى، يتخيّل فردا أوسع مخيلة من الآخرين، أو مصابا ربما بداءٍ نفسي، أو متوترا قادرا على استنباط الكلمات وربطها بشكل سحريّ أثّر على الآخرين، وجعل الكلمات تتفلّت من ثمّ، من دلالاتها المباشرة لتحلّق بعيدا، عاليا، فتصبح أغنية وشعرا ومعرفة جماعية، وتكتسب قيمة رمزية وعمقا يدهش الآخرين. ..
بأسلوب شاعريّ، شيّق وممتع، يشرح لنا غويدو تونيللي بقية أيام الخلق، معتمدا كلّ ما استنبطته المخيّلة البشرية من أدب وفن وديانات وخرافات لشرح أو تخيّل أصولنا، فاللغة الشعرية والأدبية هي بمثل أهمية الفكرة العلمية، والمعادلة الجافّة الصعبة تتراجع لصالح قراءةٍ تستدعي الفلسفة والرواية والأسطورة والحكاية. بمعنى آخر، لا بدّ من إسقاط اللغة العلمية لصالح فكرٍ علميّ يدعّم أفكاره بما أنتجته البشرية على مدى تاريخها. فكما ولدت الحداثة مع غاليليو، إثر تحرّر الإنسان من كل وصاية، واعتماده على ذكائه فقط في مواجهة عظمة الكون، لم يعد رجلُ العلم يبحث عن الحقيقة في الكتب وحدها، أو يخضع لمبدأ سطوة صيغ ومقولات تتناقلها التقاليد، بل بات يُخضِع كل شيء لنقدٍ قاسٍ حوّل العلمَ بحثًا مبدعا وخلاقا عن "حقائق مؤقتة" من خلال "تجارب حساسة وبراهين ضرورية".
في "اليوم السادس"، أُنير الكون بكمية هائلة من المجرّات والنجوم، ومن بينها مجرّتنا درب التبانة ومجرّة أندروميدا المتجاورتان المتوجّهتان الواحدة صوب الأخرى، بحيث يُتوقّع اصطدامهما، بعد خمسة أو ستة مليارات عام. ومفاده أن الكون الذي يعدّ أكثر من 200 مليون مجرّة، باتت له لحظة ولادة، وحتما، لحظة نهاية. نعم، الكونُ الماديّ هشٌّ وغير أزليّ!