في الجذور التاريخية للاستبداد الروسي
شهدت روسيا خلال القرن المنصرم تحوّلين تاريخيين، كان من شأنهما أن يضعاها على درب الديمقراطية ـ الليبرالية، تمثل الأول في ثورة عام 1917، فيما تمثّل الثاني في انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991. لكن روسيا فشلت في تحويل الثورة الاجتماعية إلى ثورة باتجاه الديمقراطية والليبرالية، كما فشلت بعد نحو 90 عاماً في الانتقال إلى نظام ديمقراطي ـ ليبرالي.
لماذا لم تنتج ثورة 1917 مساراً ديمقراطياً على غرار الثورات الغربية الحديثة؟ ولماذا لم تتجه روسيا في تسعينيات القرن الماضي إلى تبنّي المسار الديمقراطي ـ الليبرالي الحقيقي؟ سؤال طرحه مفكّرون عديدون، ومنهم الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور، الذي كتب، اعتماداً على تحليل أورلاندو فيغز، أنّ جمهور الفلاحين ما كان قادراً على تصوّر الشعب الروسي فاعلاً سيداً، فما كان يفهمه الفلاحون آنذاك وما رغبوا فيه هو حصول نظام الأسر الفلاحية على التصرّف بشكل حر، وعدم اضطهادهم من الحكومة المركزية.
لم يكن الفلاحون الروس يمتلكون تصوّراً عن الشعب على المستوى الوطني، وهو تصوّر يسمح لهم نظرياً بالعمل على الاستيلاء على السلطة لتأسيس سيادة شعبية، كما حدث مع الثورة الفرنسية التي سبقتها بـ128 عاماً. ما كان الفلاحون الروس قادرين على فهمه هو الانتفاضات واسعة النطاق، على غرار انتفاضة بوغاتشوف التي لم يكن هدفها الاستيلاء على الحكم، بل إرغام السلطة على أن تكون أقلّ لؤماً وعدواناً.
لم يتوسع تايلور في الواقع السياسي الروسي، فهذا خارج اهتمامه، فما كان مهتما به هو المتخيلات الاجتماعية لدى عموم الناس، وأثرها في الوعي والسلوك السياسيين. وقد شكّل التاريخ الروسي، خلال القرون الثلاثة الماضية، اهتمام مجموعة من علماء الاجتماع، ووضعوا مقاربات عن الجذور التاريخية للاستبداد الروسي، لكنّ أيّ بداية لمقاربة هذا الاستبداد يجب أن تنطلق من اعتبارين رئيسيين، فقد كان الاستبداد الروسي أولاً استجابة لعملية توسيع الحدود العرقية الإقليمية للدولة، وما رافقها من ضرورة تركيز السلطة في يد الملك، وكان ثانياً ردّ فعل على الهزائم العسكرية الكبرى التي تعرّضت لها روسيا في محطتين تاريخيتين مهمتين.
فرض اتساع الأراضي المسيطر عليها إنشاء سلطة مركزية قوية لديها إمداد بشري كبير مسيطر عليه
طوال القرن السابع عشر، توسعت الدولة الروسية شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، فسيطرت على أوكرانيا مع كييف ومنطقة زابوروجيا ثم سيبيريا وشمال القوقاز، ثم حدود كازاخستان. ونتيجة استملاك أراضٍ شاسعة، نشأت طبقة نبلاء الأرض على حساب طبقة الفلاحين التي دخلت في نظام القنانة بفعل قانون الكاتدرائية لعام 1649، وهو قانونٌ هدف، في المقام الأول، إلى تعبئة القوى الشعبية لتقوية الدولة وتعزيز اقتصادها وتقوية القوات العسكرية. وقد فرض اتساع الأراضي المسيطر عليها إنشاء سلطة مركزية قوية لديها إمداد بشري كبير مسيطر عليه، وهكذا، نشأت إمبراطورية فعالة في الداخل والخارج، وعلى امتداد مساحة جغرافية واسعة جداً. وبسبب الهزيمة الساحقة التي تلقتها الإمبراطورية الروسية في حرب القرم بين عامي 1854 و1855 من ناحية، وخوف الإمبراطورية من حدوث ثورة على غرار الثورة الاجتماعية الفرنسية من ناحية ثانية، بدأت السلطات البحث عن حلٍّ يقضي على نقاط الضعف الداخلية أولاً، ويقضي على أيّ منافسة للسلطة ثانياً.
لقد أعطيت الأولوية لبناء الإمبراطورية بشكل أقوى، أي أعطي الاهتمام للسياسي في المقام الأول، وليس للاجتماعي أو الاقتصادي، اللذين ظلا تابعين للسياسي على مدار التاريخ السياسي الروسي الحديث. ومثل هذا البناء للوظيفة السياسية سيميل، على مستوى البنية الاجتماعية، إلى التوجه نحو المحافظة، لأنّ السلطة السياسية القوية تفرض نفسها حامية للوضع القائم. ومع غياب مجتمع مدني منظّم، وضعف موارد السلطة الموجودة بيد الفاعلين الاجتماعيين، فإنّ عملية التحريض على التغيير بدت معدومة لصالح الدعوة إلى التكيف مع الوضع القائم، وهو ما يتجلى في اللعبة الاجتماعية أكثر من تجليه على المسرح السياسي، يقول برتران بادي وغي هيرمت.
وجد الإمبراطور ألكسندر الثاني 1818 ـ 1881 الحلّ في إلغاء نظام القنانة من أجل تحرير الطاقات الاجتماعية، وتأسيس جيش حديث من المواطنين المجندين للخدمة الإلزامية، وهو إن فعل ذلك، فقد سحب البساط من طبقة النبلاء وجعلها فاقدة أحد أهم مصادر قوتها. وكان من نتيجة ذلك وجود طبقة نبلاء ضعيفة، وطبقة موظفين واسعة تتبع مباشرة للسلطة الإمبراطورية، ما حرّر طاقاتها في الداخل، وجعلها أكثر قوة لفرض الإلزام السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
عملية التصنيع المكثفة أوجدت الشروط الموضوعية للتوتر الاجتماعي، مع نشوء طبقات عمالية جديدة مأزومة اقتصاديا
تساءلت عالمة الاجتماع ثيدا سكوكبول لماذا نجحت الطبقة المهيمنة في فرنسا بمعارضة الجهد الإصلاحي الملكي وإطاحتها الأوتوقراطية وحلّ أنظمة الدولة الإمبراطورية بين عامي 1787 ـ 1789، فيما فشلت الطبقة المهيمنة في روسيا في معارضة الإصلاحات الإمبراطورية؟ بخلاف أوروبا الإقطاعية، لم تكن طبقة النبلاء الروسية قويةً لأسباب عديدة: أولاً، لم تكن طبقة النبلاء هي التي فرضت نظام القنانة، وإنّما السلطة المركزية لأهدافها الخاصة، وظلت هي التي تتحكم في هذا النظام. ثانياً، كانت السلطة الإمبراطورية تنشئ، بين الفينة والأخرى، طبقة نبلاء تابعة لها، أي تعمل في الدولة، وتطلّب ذلك أن تصادر السلطة بعض أراضي نبلاء الأرض ومنحها للنبالة الجديدة. ثالثاً، بسبب اتساع مساحة الإمبراطورية وبسبب ضعف المواصلات. كان النبلاء مبعثرين في أنحاء الإمبراطورية، ما حال دون تشكل كتلة إقطاعية تاريخية قادرة على فرض سطوتها، والأمر نفسه انطبق على النبالة الجديدة... وتسببت هذه العوامل، مع غياب مؤسسات تمثيلية حقيقية في عدم نشوء عمل جماعي، سواء على صعيد القاعدة الشعبية أو على صعيد الطبقات العليا. صحيح أنّه كانت توجد هيئات تمثيلية محلية إقليمية، لكنّها كانت ضعيفةً للغاية، وهذا الضعف سيسم هذه المؤسسات إلى وقتنا الحاضر.
على غرار هزيمة القرم المدوية، تعرّضت روسيا إلى هزيمتين أخريين، كان لهما مع التوترات الاجتماعية الجديدة دور في نشوء ثورتين. وقد تابعت ثيدا سكوكبول هذه التطورات، فبعد هزيمة القرم، اتجهت الإمبراطورية إلى تكثيف عمليات التصنيع في بيئة صناعية غير متطورة، وتضمن نظام السياسات التي طبقتها إنفاقاً حكومياً ثقيلاً لبناء وتشغيل السكك الحديدة، وإعانات وخدمات دعم الصناعيين الخصوصيين، وتسعيرات حمائية مرتفعة للصناعات الروسية، وزيادة الصادرات، وعملة مستقرّة، وتشجيع الاستثمارات الأجنبية. لكنّ عملية التصنيع المكثفة هذه أوجدت الشروط الموضوعية للتوتر الاجتماعي، مع نشوء طبقات عمالية جديدة مأزومة اقتصاديا، ومهيأة فكريا لقبول الأفكار المعادية للحكم الاستبدادي والرأسمالية معاً.
على محلل الثورات أن يكتشف ليس العلاقات الطبقية وحدها، بل العلاقة بين الدول
مع فشل عملية التصنيع المكثفة في تحويل الاقتصاد الروسي إلى اقتصاد رأسمالي عالمي من جهة، ومع حالة الغليان الاجتماعي التي ولدتها عملية التصنيع هذه من جهة أخرى، جاءت الهزيمة العسكرية الروسية أمام اليابان عام 1905، لتدفع نحو الاحتجاج الشعبي المترافق مع احتجاج طبقة النبلاء والبرجوازية الجديدة، لكنّها ثورةٌ ذات أهداف اقتصادية بحتة لا ذات أهداف سياسية. ونجحت السلطات المركزية في القضاء على الاحتجاجات، لتكون النتيجة وضعاً اقتصادياً مزرياً، وضعاً عسكرياً مزرياً، استبداداً سياسياً قوياً. وبعد نحو عشر سنوات، ستكون الإمبراطورية على موعدٍ مع حرب أشرس، حيث شاركت في الحرب العالمية الأولى إلى جانب حلفائها الأوروبيين. وبسبب الهزائم العسكرية الروسية المتلاحقة، بدأت الطبقات العليا التحرّك لوضع برنامج إصلاحي سياسي وقانوني، مع تضعضع شرعية الإمبراطور نقولا الثاني الذي رفض الاستجابة لمطالب الإصلاح، فنشأ تمرّد صغير، ما لبث أن تحول إلى ثورة عارمة.
يتفق عزمي بشارة مع طرح سكوكبول في أهمية أخذ الدولة ومؤسساتها في الاعتبار، فالدولة ليست أداة في الصراع الطبقي أو بنى فوقية لنمط الإنتاج فحسب، وإنما هي مؤسسات قائمة بذاتها تسيطر على أرض وشعب. ولذلك، على محلل الثورات، والكلام لبشارة، أن يكتشف ليس العلاقات الطبقية وحدها، بل العلاقة بين الدول، والعلاقة بين الدولة والطبقات المسيطرة والمسيطر عليها أيضاً، وفقدان شرعية النظام وفق هذه المقاربة هو المفهوم المفسّر الرئيس للثورات.
وقعت ثورة 1917 ونجحت في القضاء على روسيا القيصرية، غير أنّ الفلاحين والعمال الذين كانوا وقود الثورة افتقدوا رؤى حول مجتمع وطني جديد قائم على السيادة الشعبية. ومن هنا، لم تنجح الثورة في إنتاج مسار تاريخي نحو النظام الديمقراطي ـ الليبرالي ونحو النظام الرأسمالي. وقد نشأت فترة ليبرالية قصيرة بعد أشهر من الثورة، لم تكن، بطبيعة الحال، ناجمة عن وعي مسبق بأهمية المناخ الليبرالي، بقدر ما نشأت عفوياً بسبب الفراغ السياسي الذي خلفته الثروة، فراغ سرعان ما سيملؤه البلاشفة الذين فرضوا على الشعب أيديولوجيا سترسم تاريخ روسيا السياسي والاقتصادي عقوداً طويلة.