في الذكرى الخامسة لـ"تشرين" العراقي
كانت تظاهرات أكتوبر/ تشرين الأول 2019 حدثاً كبيراً، مسّ غالبية العراقيين بطريقة أو بأخرى، فمنهم من شارك في هذه التظاهرات، ومنهم من أيّدها أو عارضها، أو عمل حثيثاً على إجهاضها، أو تفاعل معها بشكل من الأشكال.
يكاد تشرين العراقي بهذه الصفة يلامس الأحداث المفصلية الكبرى في تاريخ العراق المعاصر. كان فيضاناً مكبوتاً للوطنية العراقية انفجر باتجاه السطح، وفاض على كلّ الفعاليات الاجتماعية والسياسية، وحتّى الدينية، وكان أيضاً من أشكال الصدام المجتمعي والسياسي.
ومن الأشكال البارزة التي كشفها "تشرين"، الأزمة الداخلية لـ"الشيعية السياسية"، وأقول؛ داخلية، بمعنى تعامل الشيعية السياسية مع المجتمع الشيعي تحديداً، ولا سيّما الأجيال الجديدة الشابّة، التي فتحت عيونها على نظام سياسي يتحدّث على مدار الوقت عن نظام الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين، إلّا أنّ هذا الجيل الشاب لا يعرف نظام صدّام ولم يعاصره، وإنّما عاصر أشكالاً خيالية من الفساد، والتعدّي على حقوق الناس تحت عمامة الشيعية السياسية.
المفارقة الكبرى أنّ الفعاليات الثقافية والإعلامية التي تشرف عليها الأحزاب الإسلامية الشيعية لم تستطع تقديم حقيقة نظام صدّام، واكتفت بشيطنته وتحويله شمّاعةً لتعليق الأخطاء كلّها، بل استخدمته لإرهاب الخصوم، فكلّ من يعارضهم هو صدّامي بنظر هذه الأحزاب، وهذا كلّه ساهم في جعل صورة صدّام شاحبةً وغير واقعيةٍ. وبالتالي، لم تتعلّم الأجيال الجديدة شيئاً مفيداً عن رهبة ورعب وإجرام نظام صدّام، ثمّ جاءت موجات مواقع التواصل الاجتماعي لتسمح بإنتاج صورٍ ملطّفةٍ ومعاد إنتاجها لمستخدمين مجهولين، جعلوا من مقاطع الفيديو القديمة لصدّام جزءاً من حالة النوستالجيا لنظام سابق كان "قوياً"، حسب تفسير هؤلاء المستخدمين المجهولين، وأفضل (بالضرورة) من النظام الحالي.
كان من الطبيعي أن تستخدم الآلةُ الإعلامية والدعائية لأحزاب السلطة تهمةَ البعثيّة والصدّاميّة في مواجهة الشبّان، الذين خرجوا إلى الشوارع والساحات ومعهم مجموعة كبيرة من المطالب، قد تبدأ من البحث عن فرص عمل ولا تنتهي عند الرغبة باستعادة الوطن والوطنية من فكَّي الأحزاب الطائفية، وقد ينادي بعض المتظاهرين، بانفعال وحرقة، بالدعوة إلى اسقاط النظام.
هذه المطالب كلّها، التي وحّدتها الساحات، كانت تشير بالإصبع مباشرة إلى فشل النظام الذي أُنشِئ بعد 2003 في تلبية طموحات المواطنين، وما هو أكثر أهمّية، فشل هذا النظام في فهم سيكولوجيا الأجيال الجديدة، والطرائق التي يُفكّرون بها.
كلّ إنسان مسّه حدث تشرين، بطريقة أو بأخرى، لديه حكاية مع تشرين، وحكايتي الشخصية أنّها كانت امتحاناً للمواقف، واخترت أن أكون في صفّ الضحايا من الشبّان المتظاهرين الذين سقطوا بنيران حكومة عادل عبد المهدي المُجرمة، ومن يدعمها من أحزاب متنفّذة، ولم أغلق حساباتي في مواقع التواصل أو أصمت، كما فعل بعضهم، وبقيت مُؤيّداً ومناصراً، بل ومشاركاً في الموجة الثانية من التظاهرات، التي انطلقت في 25 أكتوبر، الأمر الذي زاد من التهديدات الجديّة على سلامتي الشخصية، حتّى وصلت إلى لحظة فاصلة كان فيها القرار الأسلم هو مغادرة بغداد، للحفاظ على الحياة، وعلى مستقبل العائلة.
من زاوية حكايتي الشخصية، فإنّني مُلتزم أخلاقياً بدماء الضحايا، التي لم ينصفها القانون العراقي حتّى اليوم، ولم يكشف عن مصير المغيَّبين والمفقودين، بل دخلنا في مهازلَ كثيرةٍ ترينا كيف أنّ الفاعلين السياسيين يتلاعبون بالقانون والمؤسّسات وكلّ شيء من أجل أن يفلتوا من العقاب.
من هذه الزاوية تحديداً، لستُ معنياً بالذين انقلبوا أو تغيّرت مواقفهم، وجرى شراؤهم بالمال السياسي لكي يصطفوا مع هذا الحزب أو ذاك، بعد أن كان يواجههم منتقداً ومحتجّاً في ساحات التظاهر.
لست أيضاً مع الأصوات العالية التي تنادي بـ"الثورة"، ولا أُؤيّدها، وفي ذلك كلامٌ كثير، ولكنّي مؤمنٌ أنّه من المستحيل أنّ ينضج النظام السياسي ويتطوّر بكبت الحرّيات وإرهاب الناس وتقييد نشاط المجتمع المدني والحراك الاحتجاجي. لا يمكن للاستبداد أن يُقدّم حلّاً، بل هو يراكم الأخطاء، تلك التي خرجت مظاهرات تشرين ضدّها، وتلك التي ما زالت تتوالى.