في العيوب السياسية لمعارضة المنفى المصرية
على الرغم من تراجع معارضة المنفى المصرية، بدت محاولاتٌ لتأطير الوضع الراهن والنظر إلى المستقبل، فلم تكتف مجموعات المنفى بإصدار بيانات تقليدية، بل أصدرت تصوّراً عن الوضع في الدولة وسياسة لمعالجة المشكلات. فمن جهة، أصدرت جماعة الإخوان المسلمين "وثيقة يناير 2024"، كما أصدر حزب الغد، 11 فبراير/ شباط الجاري، رأيه في السياسة الاقتصادية ومستقبلها. وبغض النظر عن اختلاف منظور كلٍ من الطرفين، يُثير هذا الوضع التساؤل عن اتجاهات عمل المعارضة، وخصوصاً مع ظهور عيوب الثقافة التنظيمية لجماعة الإخوان تجاه المجتمع وتأثيره على تجانس المعارضة.
في العام الماضي، انعكس انحسار المعارضة في الاتجاه نحو التدوين الفردي على وسائل التواصل الاجتماعي وإصدار بيانات متفرّقة. وعلى مدى الشهور اللاحقة، ظل أثر تحسين "اتحاد المعارضة" وتطوير "الحوار الشعبي" محدوداً، فقد توقّف نشاطهما عند إصدار بيان "مطالب الشعب المصري"، 25 يناير/ كانون الثاني 2023، ارتكز الحل السياسي على تنحّي الرئيس عبد الفتاح السيسي، طوعياً، بجانب طرح سياسة اقتصادية لتخفيف الأعباء.
ويمكن النظر إلى الركود التنظيمي لمعارضة المنفى مؤشّراً على ظهور آثار التحلّل الهيكلي والانسحاب الفردي، فمع توقف "اتحاد المعارضة" سريرياً، يؤسّس حزب الغد موقفه على تنحّي حسني مبارك، عندما طرح مفردات تصحيحية للإدارة الاقتصادية، فيما انغمست بيانات "الإخوان المسلمين" ومواقفها في معركة شاملة، استغرقت في وصف الأزمات وطلب تسوية مشكلاتها مع الدولة، ما يكشف عن فروق واضحة في اتجاهات التعامل مع الوضع السياسي، وإزاء هذه التطوّرات، بدت الجماعة معنية بتعويض ترنح معارضي المنفى. ويكشف نشرها رؤية سياسية، 24 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، بعد مرور عشر سنوات، عن تواضع الفاعلية وتشتت السياسات، فقد خلت من وضوحٍ نظريٍّ أو تجريبي، يحميها ضد الاستقطاب أو الحديث عن الروافع السياسية والاقتصادية اللازمة لتجاوز فشل التوافق بين التيارات السياسية لما يقرب من قرنٍ، عَلَت فيه المناكفة على المصلحة الوطنية، كانت صورتها واضحة على مدى العقد الماضي، ليكون الحديث عن التوافق الحزبي نوعاً من الاستظهار اللفظي عن الرغبة في العمل المشترك.
وبشكل عام، يعلو خطاب الأزمة في بيانات جماعة الإخوان المسلمين ومواقفها، فالحديث عن مستقبل الثورة ماضوي؛ فحسب الصياغة، ارتكز على مضامين متكرّرة عن مشكلات السياسة، استمدّها من ملخصات سابقة والأحداث اليومية، بحيث شكّل حلقة مفرغة. ومن حيث المحتوى، انحسر نطاق الحل في مُقترح "معالم الرؤية..."، لتؤكّد على الدولة المدنية وحل مشكلات المعتقلين، فيما انشغلت البيانات بالحديث عن أزمات الفساد والاستبداد، وبغضّ النظر عن غياب نظرة مستقبلية، تبدو جماعة الإخوان متردّدة في تسوية مشكلاتها. وهنا، يمكن قراءة تواتر الكلام عن التغيير الثوري نوعاً من التقليد الخطابي، وخصوصاً مع تكرار مواقفها عن إزالة الحُكم القائم وبدء فترة انتقالية من ثلاث مراحل، تمرّ بمرحلة توافقية وتنتهي بانتخابات مفتوحة.
تُصيب سيكولوجية حركة الإخوان المرتبكة تجاه المجتمع بِالحيرة ما بين التباهي بالإرادة الشعبية عندما تختارها وامتهانها لدى الانصراف عنها
وبغض النظر عن محدودية مساهماتها، وخصوصاً في المنفى، فقد قصرت عن تقديم مبادراتٍ لتسوية مشكلاتها السياسية. ولذلك، يمكن تفسير الركود الحالي بالقلق من الإقدام على التسوية والتراخي في التعامل مع المشكلات. وتعبيراً عن الرضا بالوضع الراهن والبقاء بالمنفى، روّجت ما سمته ثبات المعتقلين وبقاء الجماعة بمثابة نصر سياسيٍ. قبل سنوات، ومع عُلو المشكلات الداخلية، اقترحت الجماعة مصطلح "نصاب البقاء" للتعبير عن هامشية تأثير انقسام مجموعات المكتب العام في 2015، وينصرف هذا المصطلح لنمط تقليدي في التربية التنظيمية، يقوم على سلامة وضع الجماعة مع بقاء ربع عضويتها، وهو ما يعكس القابلية للكسل وضآلة قيمة الفرد مقارنة بالتنظيم.
وبينما تتّضح الطبيعة السياسية لمشكلة المعتقلين، استقرّت مُقاربة جماعة الإخوان على الزاوية الحقوقية، فمنذ نهاية أربعينيات القرن الماضي، ارتبط مستوى المعتقلين وحجمهم بتصاعد الأزمة بين "الإخوان" والدولة. لا يختلف الوضع الحالي عن هذا الخط التاريخي، فمع انهيار كوابح الصدام في يوليو/ تموز 2013، ارتبطت مشكلة المحبوسين بصعوبة وجود أرضية لتسوية أوضاعهم، وخصوصاً مع استمرار أزمة الثقة، وتدهور قدرات الجماعة، لتبقى الطرف الأضعف في الترتيبات السياسية.
وعلى التوازي من المواقف الجماعة الرسمية، ظهرت موجة شماتة في شكوى الشعب من تداعيات السياسة الاقتصادية وعدم تناسب الأجور مع ارتفاع الأسعار. تواترت هذه الموجة عبر تدوينات كثيرين من المنتمين لـ"الإخوان". وبغض النظر عن طابع القطيع، انتظمت التدوينات حول فكرة مركزية، تم التمييز فيها بين ثورة الرأي واحتجاج البطن، في مقاربة مُسيئة للمجتمع، شبّهته بحيوانية ركون البقر للذبح واحتجاجه عند الجوع.
تواجه جماعة الإخوان المسلمين في المنفى حالة انكشاف، سوف تدفعها إلى التردّد في قيادة المعارضة
على أية حال، لا تبدو اتجاهات التعبير الفردية عفوية، فبجانب تكرارها في مناسبات مختلفة، فهي نتاج توجيه منصّات إعلانية. وهنا، يقدّم خطاب حركات المنفى والتدوينات المنشورة عينةً كافية للاستدلال على جانب من ثقافة الإخوان المسلمين تجاه مخالفيهم. تُساعد الأنثروبولوجيا الثقافية في تفسير وجود قناعات عدائية لدى قطاع من الجماعة ضد مؤيدي "30 يونيو" (2013). وقد يرتبط هذا النمط بمحتوى تلقين المراحل الأولى في استحواذ الجماعة على الصواب والكمال الإسلامي دون بقية الاجتهادات الفكرية والحركية، وغالباً، ما تظهر هذه الخصائص في وقت الأزمات في تعبيرات النكاية والشماتة.
وبشكل عام، بدا توجّه تسفيه الشعب مُثيراً للجدل بشأن طبيعة العملية التربوية الداخلية واستنادها لمدوّنة أخلاقية، فقد بلغ التطاول حد التجريح والإهانة، لتتجاوز التعبير عن الاختلاف لاستدعاء روح الانتقام. وبينما انتشرت تعليقات التوبيخ، حاول بعضهم تقديم موقف وسطي باحترام الشعب والحفاظ على الدولة، لكنه ظل خافتاً، وصارت الأولوية لتوريث العداء إلى شرائح عًمرية أخرى. في وقت جائحة كوفيد 19، ظهرت أفهام وسلوكيات مشابهة، دار محورها حول تمنّي تفاقم الوباء حتى تسقط الحكومة ويثبت فشلها، من دون النظر إلى المضار الواقعة على المجتمع ودوائر القرابة. هنا، تتكوّن ظاهرة ثقافة اعتلال لا تناسب ادّعاء الصلاح أو الإصلاح.
على أية حال، تُصيب سيكولوجية حركة الإخوان المرتبكة تجاه المجتمع بِالحيرة ما بين التباهي بالإرادة الشعبية عندما تختارها وامتهانها لدى الانصراف عنها. تبدو هذه الخصائص تعبيراً عن النفعية، وتحمل في طيّاتها وجود بذور فطرية لإهانة المخالفين. وراء هذا السوك المُعقد، تختبئ هُوية مَرنة، تتسم بالمصلحية الجوانية، وعلى الرغم من افتخار الجماعة باختيار الشعب مرشّحيها في انتخابات عامي 2011 و2012، فقد وصفته مجتمعاً خانعاً في السنوات اللاحقة.
يقدّم خطاب حركات المنفى والتدوينات المنشورة عينةً كافية للاستدلال على جانب من ثقافة الإخوان المسلمين تجاه مخالفيهم
وبشكل عام، أرسى السلوك الإخواني قناعات التباعد لدى شركاء المعارضة، فرغم مرور عشر سنوات على إزاحة "الإخوان" من السلطة، ظلت الجماعة على موقفٍ واحد لم يراع تعدّد الآراء داخل التحالفات، بدأ باستعادة السلطة ثم إسقاط الحكومة. وخلال هذه الفترة، انحسرت عنها روافد الدعمين، السياسي والمالي، فقد خسرت مساهمات سلسلة من التحالفات. وبغضّ النظر عن أسباب تراجع الروابط التنظيمية لحركات المنفى، تمثل سيولة أهدافها وعدم واقعيّتها عيباً مشتركاً، انعكست تداعياتُه في التفكّك على مستويين، تمثَّل الأول في الميل المستمر إلى الانقسام الرأسي وتصعيد مجموعات مغمورة إلى مستويات إدارية عليا، بحيث تبلورت حالة فلتان تنظيمي في الجماعة، انعكست آثاره في خمول مجموعات المعارضة الأخرى، لتتحوّل إلى فرق نشاط بؤرية على مواقع التواصل الاجتماعي، وأنشطة متناثرة في دول أوروبية وجمعيات إغاثية ومراكز حقوقية. أما المستوى الثاني، فهو ما يتعلق بتخلّي أفرادٍ كثيرين عن الروابط التنظيمية، بسبب فجوة تلبية الجماعة/ المعارضة مصالح أعضائها أو تمكينهم من الحياة الكريمة، لتنتشر ميول الإحباط والعزلة، كما يؤدّي ضعف التجربة السياسية للمدراء الحاليين وانحسار بدائل تحسين كفاءتها لانهيار القدرة على الحشد ضد الدولة.
وعلى أية حال، ترتكز رغبة المعارضة/ الإخوان في التغيير على عوامل خارجية، حيث تقوم على الاستفادة من أخطاء الحكومة، الاحتقان الشعبي والتمويل السياسي. وبجانب العيوب الداخلية، يُعزّز الطابع الطفيلي لهذه المتغيرات رغبة البقاء في الوضع الراهن، فليست هناك إرادة لمعالجة أزمتها الداخلية أو تجنب الإساءة للمجتمع.
وفي ظل هذه التداعيات، تواجه جماعة الإخوان المسلمين في المنفى حالة انكشاف، سوف تدفعها إلى التردّد في قيادة عمل المعارضة، حيث لا تفضل الجماعة العمل منفردة، سواء لتصنيفها منظمة إرهابية في دولٍ كثيرة، والتعامل معها مشكلة أمنية، أو لاهتزاز وضع المعارضين في الخارج، وتفضيل الظهور خلف تحالف قِشرة حتى يعطي انطباعاً جماعياً وليس إخوانياً، ليكون نشاطها من خلال مظلّة، تساعد في الكلام عن العمل المشترك، وتخفيف أعباء نشاطها على القسم الأكبر من الجماعة داخل مصر. ولذلك، مع التراجع الواضح في بيئة المعارضة الخارجية، سوف تتجه التفضيلات إلى التعبير الرمزي للبقاء الإعلامي والحقوقي انتظاراً لتغير الظروف.