في انفضاح مؤسسة صهيونية أميركية
أصدر مجلس العلاقات الأميركية – الإسلامية (كير)، يوم الثلاثاء الماضي 14 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، بياناً كشف فيه عن أن إحدى منظمات الكراهية التي تنشط في حقل الإسلاموفوبيا والدفاع عن إسرائيل في الولايات المتحدة نجحت في التسلّل إلى فرعه في مدينة كولومبوس، في ولاية أوهايو، وبالتالي التجسّس على بعض أعماله وأنشطته بشكل غير قانوني. حمل البيان حزمة من المفاجآت، أولها أن الشخص الذي كان يتعامل مع تلك المنظمة وجُنِّد، مدير فرع المجلس في كولومبوس، وهذا يعني أن الاختراق كان على مستوى عالٍ. الثانية أن هذا الاختراق لم يكن معزولاً، إذ ثمَّة مراكز ومؤسسات إسلامية أميركية بارزة ضحية للأمر نفسه، وقد جرى التواصل معها وإمدادها بالمعلومات. وحسب بيان "كير"، عمل هؤلاء الجواسيس على سرقة بيانات مؤسساتهم، بما في ذلك رسائل البريد الإلكتروني، وخطط تلك المؤسسات، واستراتيجياتها للعمل، إلخ، ومشاركتها مع تلك المنظمة الصهيونية المعادية للإسلام والمسلمين. لكن المفاجآت لا تقف عند هذا الحد، وهذا هو الأهم في سياقنا هنا، إذ إن تلك المنظمة، بناءً على الأدلة والمستندات التي حصلت عليها "كير"، تثبت أنها كانت تتواصل مع المخابرات الإسرائيلية، بل وكذلك مع مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، وتقدّم لهم المساعدة والمشورة، ومعلومات عن النشاط الإسلامي والفلسطيني في أميركا.
قبل أن نمضي أبعد من ذلك، حريٌّ بنا أن نقدم خلفية موجزة عن "كير" وعن المنظمة التي تجسّست على المسلمين الأميركيين، وتقوم بالتجسس عليهم. تأسّس مجلس العلاقات الأميركية – الإسلامية، المعروف اختصاراً باسم "كير"، عام 1994، وهو مؤسّسة تُعنى بالدفاع عن الحقوق المدنية للمسلمين الأميركيين. وله اليوم 35 مكتباً في أنحاء الولايات المتحدة، ويعمل فيه عشرات الموظفين، من ضمنهم محامون. وتُعَدّ "كير" أكبر مؤسّسة إسلامية أميركية، وأكثرها تأثيراً، ويهتم الإعلام الأميركي بتقاريرها، كذلك يحرص سياسيون كثيرون، بمن فيهم في الكونغرس، على الاستماع إليها، ويلجأ إليها المسلمون في حال تعرُّض حقوقهم المدنية للمسِّ والاعتداء، سواء من الأجهزة الحكومية أو في العمل، وباقي مجالات الحياة الأخرى. أما المنظمة المعادية للإسلام المتهمة بالتجسّس، فهي صهيونية بامتياز، تعمل تحت لافتة "المشروع الاستقصائي حول الإرهاب" (Investigative Project on Terrorism)، أسّسها ويرأسها صهيوني يميني متطرّف اسمه ستيف أميرسون. تأسست هذه المنظمة عام 1995، وهي تقوم بفبركة قصص، أو إخراج تصريحات عن سياقاتها لشخصياتٍ إسلاميةٍ وأكاديميين ونشطاء لفلسطين، ثمَّ نعتهم بالإرهاب ومعاداة السامية.
تعاون ستيف أميرسون وأمثاله مع المخابرات الإسرائيلية، والتجسّس على مواطنين ومؤسسات أميركية، يجعلان منه "عميلاً أجنبياً غير مسجّل"، وهي تهمةٌ يعاقب عليها القانون الأميركي
في ما يتعلق بأميرسون، بنى سمعته، منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، على أنه الخبير الأميركي الأول بـ"الإرهاب الإسلامي"، ودائماً ما يحذّر من وجود المسلمين في الولايات المتحدة، و"خطرهم" على أمنها القومي ومستقبلها. وعلى الرغم من أنه تعرّض للسخرية بعد تفجيرات أوكلاهوما سيتي عام 1995، عندما زعم أنها تحمل "سمات شرق أوسطية"، ليتضح بعد ذلك أن منفذها أميركي يميني أبيض متطرّف، إلا أن هجمات "11 سبتمبر" في 2001 في نيويورك وواشنطن، التي تبنّاها تنظيم القاعدة، جعلت من أميرسون قبلة الإعلام الأميركي والأجهزة الأمنية وكثير من لجان الكونغرس. ومع ذلك، لم يلبث الأمر طويلاً قبل أن تُقَوَّضَ صدقية الرجل وَيُكْتَشَفَ زيفه مجدّداً، إذ وظّف خبراته المزعومة للتحريض على الإسلام والمسلمين، عموماً، وعلى الوجود الإسلامي في أميركا تحديداً. وكان "مركز قانون الفقر الجنوبي الأميركي"، وهو مؤسّسة عريقة متخصّصة في الدفاع عن الحقوق المدنية ومكافحة خطاب التحريض والكراهية، وصف أميرسون بأنه ناشط مناهض للمسلمين، خصوصاً أنه يشكّك في ولاء المسلمين الأميركيين ووطنيتهم. أما مركز التقدّم الأميركي، فوصف أميرسون بأنه "خبير معلومات مُضَلِّل... يُوَلِّدُ حقائق ومواد كاذبة يستخدمها قادة سياسيون ومجموعات شعبية ووسائل إعلام".
الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة تصف كل من يشكّك في ولاء صهيوني أميركي يضع مصالح إسرائيل قبل أميركا بأنه معادٍ للسامية
أطل أميرسون، في عام 2015، في مقابلة عبر قناة فوكس نيوز اليمينية المتطرّفة، زعم فيها أن ثمَّة أحياء في لندن لا يمكن لغير المسلمين أن يدخلوها، بما في ذلك الشرطة، فهي حصرية عليهم، وتطبّق فيها أحكام الشريعة الإسلامية. ومضى أبعد من ذلك إلى حد الزعم أن مدينة بيرمينغهام "مدينة للمسلمين فقط". أثارت تصريحات أميرسون تلك استهجاناً واسعاً، اضطرّ على إثره إلى الاعتذار، والزعم أنه زُوِّدَ بمعلومات خاطئة، فيما وصفه رئيس الوزراء البريطاني حينها، ديفيد كاميرون، بـ"الأحمق". بعدها انتهى حضور أميرسون في الإعلام الأميركي الرئيسيِّ والجاد. إلا أن ذلك لم يعن أن عمله القائم على التزييف قد انتهى، فهو عبر موقعه الإلكتروني، "المشروع الاستقصائي حول الإرهاب"، لا يزال يقوم بحملات التحريض والتلبيس والتدليس ذاتها ضد شخصياتٍ إسلاميةٍ أميركية، والنشطاء لفلسطين في الولايات المتحدة، من كل الخلفيات والأعراق.
الذين يتابعون الرجل كانوا يعلمون أنه ليس مجرّد معادٍ للإسلام ضمن شبكة كراهيةٍ واسعةٍ مموّلة بعشرات ملايين الدولارات، بل هو أيضاً صهيوني حتى النخاع، وكانت هناك شكوك كثيرة في أنه يعمل مع إسرائيل. التهمة الأخيرة لم يكن عليها دليل، إلا أن بيان "كير" جاء موثقاً لها. أميرسون، كما الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة، يصف كل من يشكّك في ولاء صهيوني أميركي، يضع مصالح إسرائيل قبل أميركا، بأنه معادٍ للسامية. اليوم يعضد أميرسون هذا المعطى، بأن ثمَّة بين متطرفي الصهاينة الأميركيين من ولاؤه لإسرائيل قبل الولايات المتحدة. هذا أمرٌ لا ينطبق على معظم اليهود الأميركيين، ولا ينبغي التعميم هنا أبداً، فذلك فعلاً خطاب كراهية وتحريض. لكن، تعاون أميرسون وأمثاله مع المخابرات الإسرائيلية، والتجسّس على مواطنين ومؤسسات أميركية، يجعلان منه "عميلاً أجنبياً غير مسجّل"، وهي تهمةٌ يعاقب عليها القانون الأميركي. المفارقة أن ردَّ أميرسون على بيان "كير" الفاضح لم يكن تشكيكاً في معلوماته والمستندات التي تملكها المؤسسة، بل باتهامها ونعت قياداتها بأنهم "معادون للسامية"! هي محاولةٌ للردع، ولكنها لم تعد تجدي نفعاً، كذلك فإنها نكتةٌ سمجةٌ لا تلغي أن إحدى الأذرع الإسرائيلية الأميركية قد كشفت بشكل موثق، في انتظار البقية.