في تقلبات الشرق الأوسط وأزمة الديمقراطية

13 ديسمبر 2024
+ الخط -

مع تتابع الأزمات في الشرق الأوسط، تتزاحم التصورات حول الأشكال المتوقعة للحل السياسي؛ فعلى مدى أكثر من عشر سنين، شهدت عدة بلدان حروباً أهلية، فيما حافظ قليل منها على تماسكه. وللخروج من هذه المشكلات، شكلت الديمقراطية محور مناقشات التحوّل السياسي، غير أن تضاؤل نتائجها عدة عقود، يثير النقاش بشأن ملاءمة الديمقراطية الغربية لإنجاز مرحلة إعادة البناء في البلدان التي تمر باضطراب سياسي.

وبجانب التجارب السابقة، تُمثل اللحظة السورية حالة من التغير السياسي المزدوج؛ اجتمع فيه السلاح والسلمية 12 سنة، سادت فيها الحرب الأهلية. ولذلك، يقع تعامل السوريين مع لحظة دخول المعارضة العاصمة دمشق بوصفها نقطة اختبارية، تكشف عن مستوى التراكم المعرفي لدى المنظمات السياسية أو المسلحة. هنا، تشير المشاهدات الأولية إلى وجود درجة من التَحَضر في التعامل مع فراغ ما بعد احتفاء الرئيس السابق، بشّار الأسد، وإعلان تسريح الجيش. تتضافر هذه البداية مع إعلانات المعارضة بالانفتاح السياسي وتأسيس المرحلة المقبلة على التعدّدية السياسية، غير أن غموض عملية التأسيس للمرحلة الانتقالية يلقي بظلاله على ترجيح خيارات المرحلة الانتقالية.

تتسق الحالة السورية مع مسار حالات الربيع العربي السابقة، وذلك في جوانب نقص الجاهزية للمرحلة الانتقالية، سواء فيما يتعلق بالتوجه السياسي أو تشكيل الهياكل الانتقالية، فقد انشغلت الجماعات السياسية في النقاش الطويل بشأن قواعد التداول على المناصب وإعداد الدستور. وبغضّ النظر عن تواضع الإنجاز الانتقالي، لم تتفاهم القوى السياسية على إطار التعدّدية السياسية والاجتماعية، لتدخل في حالة استقطاب أودت بالمشوار الانتقالي.

تنطبق هذه النتائج على كل البلدان والسودان، وتشير مرجعية الثورة السورية إلى وجود نمط مماثل من المشكلات، تشكلت ملامحها ثنائية الجماعات المسلحة والمنظمات المدنية، وانحسار المساحات المشتركة بين الأيديولوجيات الإسلامية والتيارات العلمانية، وما يتعلق بها من الخلاف حول طبيعة الدولة. وبالتالي، لا يعمل تضخيم صورة هيئة تحرير الشام، بطبيعتها السلفية الجهادية، على اهتزاز العلاقات السياسية مع المكوّنات الأخرى.

على أية حال، لا يمكن تفسير هذه النتائج بمعزلٍ عن سمات الحركات المشاركة في المرحلة الانتقالية. من وجهة أساسية، كانت نتائج الربيع العربي انعكاساً لضعف البنى الحزبية، ورغم مرور مصر وتونس بتغيرات متسارعة، لم تصمد القوى السياسية أمام بيروقراطية الدولة. في هذا السياق، شكلت العوامل التنظيمية نقصاً جوهرياً لشروط الديمقراطية، عندما لازمت الانقسامات دورة حياة الأحزاب والجماعات السياسية، لتفقد النفوذ والقدرة على التأثير. وهنا، تُرجح خصائص الجماعات وحالة الدولة في اليمن والسودان وليبيا البقاء في حالة الدولة الفاشلة؛ فهي تُعطي شواهد على ارتباط تعدّد المجموعات المسلحة بالانهيار السياسي.

ساهم غياب الانتقال الاجتماعي في تعطيل دوران النخبة وانشغالها باستيراد أفكار التحديث السياسي من دون ابتكار نموذج يراعي الملاءمة البيئية

كما ساهم غياب الانتقال الاجتماعي في تعطيل دوران النخبة وانشغالها باستيراد أفكار التحديث السياسي من دون ابتكار نموذج يراعي الملاءمة البيئية، فقد تكاسلت النخب الاجتماعية والحزبية عن طرح تصوّرها للتحديث، فخلال عقود ما بعد الاستقلال، اكتفت باستعراض صُور الإصلاح وإرساء السلطوية في النظام الداخلي للأحزاب. وهنا، تُقدم نخبة السبعينيات مثالاً على توقف دورات التجديد الحَركي؛ بالبقاء في صدارة المشهد التنظيمي والانشغال باستيراد الفكر السياسي. وفي الفترة الأخيرة، ولأكثر من عشر سنوات مضت، لم تتمكّن معارضات المنفى من إرساء قناعات التداول أو إعداد ميثاق يتقاطع مع احتياجات الدولة. ولتواضع النموذج التحديثي، انشغلت الحركات الاجتماعية بموضوع السلطة على حساب المساهمة في الإصلاح، لتقوم العلاقة على التوتر والصراع. وبينما قبِل الليبراليون والاشتراكيون بالدولة الوطنية، ذهب موقف الإسلاميين إلى استعادة النمط الإمبراطوري. في الحالتين، انحسرت المساهمات في الصراع على السلطة.

وتعمل الخلافات الدينية على تعزيز الشعور بالسمو لدى الجماعات الدينية والإثنية، لتنمو عقلية الصراع على حساب المساومات. في بعض بلدان الشرق الأوسط، توجد ثلاثة قيود على التحول السياسي، في مقدمتها؛ تناقضات أيديولوجيا الصهيونية، السلفية الجهادية وانتشار الشيعية السياسية. تشكل هذه الظواهر مُحفزات دائمة للحروب، تبقي إسرائيل عامل تهديد.

وفيما تكون الأيديولوجيا الصهيونية متكلسة، تتبنّى الجماعات الجهادية أيديولوجيا بسيطة، تدور فيها العلاقات على أولوية "الشيخ" على رجل الدولة البيروقراطي، لتساعد في تفسير كراهية المسلحين الدولة والمؤسّسية، فيما تعتمد بشكل مطلق على المركزية الأيديولوجية. لعقود، قامت قناعات الإسلاميين والجهاديين على مرحلية الدولة القومية ورفض الديمقراطية. على هذه الأرضية، تشكلت العقيدة السياسية لأجيال مختلفة، ويتضاعف رسوخها مع اختلال التأثير لصالح المنظمات المسلحة على حساب الكيانات المدنية. ولذلك، لا يقدم انتشار تغيير الخطاب السياسي لهيئة تحرير الشام إجابة على إمكانية التغير عبر جيل واحد وتحت مظلة العمل المُسلح، ولذلك، يمكن النظر لتصريحات القبول بالديمقراطية والتعددية السياسية على أنها محاولة لقطع الاغتراب عن المجتمع السياسي.

أدّت المحاولات الانتقالية لنتائج عكسية، فبدلاً من تجميع قدرات المجتمع ودعم التحول السياسي، أظهرت سمات التناقض والخلاف وضعف المؤسّسية

وبشكل عام، ساهمت هذه السمات في بقاء فجوة القوة بين الدولة والمجتمع، لتكون عاملاً أساسياً في تعثر محاولات الانتقال السياسي.. تمدنا السياسة المقارنة بمداخل تحليل التطور السياسي في المجتمعات المتغيرة، منها ما يتعلق بالتفاعل بين الدولة والمجتمع، حيث اعتبرت أن الوصول للتوازن حالة مثالية. وإزاء مشكلة الديمقراطية، لا يقدم نموذج جويل مجدال، إطاراً كافياً لتأثير نتائج الانتخابات في النظم السياسية الانتقالية، بقدر ما يبحث في علاقات القوة والتكيف السياسي.

وفق هذا المدخل، حقّق عدد قليل من النظم السياسية في الشرق الأوسط قدراً من الانتقال السياسي، فيما دخلت حالات كثيرة مرحلة فشل الدولة، هنا، يمكن النظر لنمطين، يكشف كلٌ منهما عن معوقات الديمقراطية. يتمثل الأول في تأثر الدول المتماسكة بأعباء الاضطراب الأمني واللجوء. يمكن الإشارة إلى حالتي مصر وتركيا جزيرتين في محيطٍ من الاضطراب السياسي، دفع لتركيز السياسة الخارجية على الدفاع الذاتي والتحوط ضد مصادر التهديد. أما الثاني، فيتمثل في اتساع الجدل بشأن تغلغل العوامل الخارجية في مقابل هشاشة المنظمات المحلية. وهنا، يُضاعف انتشار القوات الأجنبية وخضوع ما لا يقل عن ثلاثة بلدان للفصل السابع (ميثاق الأمم المتحدة) نوعاً من الوصاية على التصرّفات المستقبلية للحكومات لتخلق دوائر الإطاحة بالقوة السياسية للدولة وإحباط الديمقراطية.

انعكست هذه السياقات في الممارسات؛ فعلى خلاف التجارب الغربية، لم تؤدّ الانتخابات لنضج نظم الحُكم بقدر ما أنتجت نظماً غير مستقرّة، شهدت مراحل صعود وهبوط، لكنها لم تستقر على نموذج يراعي الخصائص المحلية، بقدر ما ساهمت في الكشف عن التناقضات السياسية؛ فلم يسعف تكرار الدورات الانتخابية في إنضاج النظام الحزبي، سواء في تجارب التعدّدية أو الحزب الواحد، وفي المقابل، تنامت معوقات الديمقراطية، حيث ينتشر التصويت الجمعي تحت تأثير الولاء وعلاقات القرابة، لتتسلّل الفروق العرقية في المؤسّسات السياسية.

مع تماثل البنى التنظيمية والصراعات الأيديولوجية، سوف تتراجع فرصة الديمقراطية، ليدخل العديد من البلدان في الحالة الاستثنائية

ولذلك، أدّت المحاولات الانتقالية لنتائج عكسية، فبدلاً من تجميع قدرات المجتمع ودعم التحول السياسي، أظهرت سمات التناقض والخلاف وضعف المؤسّسية. لم تثبت تجارب الانتخابات في الدول مُتعدّدة العرقية جدارة في تطوير نُظم الحكم، حيث تتسرب الانتماءات الفرعية في المؤسسات الوطنية مُحملة بالعصبية المحلية والتطلعات الانفصالية. تزداد هذه الحالات مع وجود منظمات أيديولوجية تعمل على بلورة الوعي القومي والتمايز العرقي، وأيضاً، يمثل انتشار الجماعات المُسلحة تحدياً للسلطة المركزية واستنزافاً المجتمع، يقوم فيه المسلحون بتوجيه مناقشات الديمقراطية والمرحلة الانتقالية.

تُشير الحالات لوجود خلاف حول المفاضلة ما بين المركزية والدينية وبين القبول بالديمقراطية في العمليات السياسية، وحسب مرحلة التطور السياسي والاجتماعي، لا يتناسق النموذج الديمقراطي مع قيام الحركات السياسية على المركزية التنظيمية والأيديولوجيا الصارمة. يتلاقى هذا التوجه مع التلاعب الغربي بالديمقراطية، عندما تعارضت مع حاجات الأمن القومي وأيديولوجيا معاداة السامية، فقد عزز السلوك الغربي التشكّك في إلزام القيم الديمقراطية لمَّا قيدت الحكومة الأميركية التعبير عن الرأي ضد الإبادة في غزة، كما بلغت إساءة استخدام الصلاحيات القانونية مداها في العفو الرئاسي عن هانتر بايدن، وتوسّع دونالد ترامب في تعيين أقاربه في الإدارة الجديدة.

على أية حال، لا تنصرف آثار هذه الممارسات لخفض جاذبية الحل الديمقراطي، بقدر ما تعمل على استبعاده لبطء الاستجابة لتقوية بيروقراطية الدولة وإعادة البناء بعد الحرب الأهلية. ولذلك، فإنه مع تماثل البنى التنظيمية والصراعات الأيديولوجية، سوف تتراجع فرصة الديمقراطية، ليدخل العديد من البلدان في الحالة الاستثنائية، سوف تتجه فيها المنظمات المسيطرة لتثبيت وجودها في المرحلة الانتقالية، لكنها تظل في حاجة لتطوير نموذج للتنمية يلائم حاجات المجتمع.

5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .