في حاجة مصر إلى جبهة للإنقاذ
ارتبط مسمّى جبهة الإنقاذ في مصر بالاستقطاب السياسي نهاية 2012 إلى منتصف 2013، وهو مسمّى أصبح بغيضًا بعد عشرية سوداء من حكم الانقلاب العسكري مصر، سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، وهذه السمعة السيئة كانت مبكرة، لدى بعضهم، مع نشأة الجبهة، لكن المتأثرين بمسارها من قبل، وبحركة تمرّد التي كانت جناحاً من جناحَيْ الانقلاب، أصبحوا اليوم أمام حقيقة دورها المخرّب مستقبلَ المصريين في انتخاب حكامهم، وإذا كان ما جرى صار ماضياً، فقد استدعى ذكر هذا المسمّى أنّ مصر أصبحت اليوم في أمسِّ الحاجة إلى جبهة إنقاذ مما آلت إليه قبل فوات الأوان، وقد أصبحت اليوم في حاجة إلى إنقاذ حقيقي لا مجرّد شعار سياسي.
على مدى أكثر من 11 عاماً، حدث في مصر تدهور شديد لم يُستثنَ منه أي قطاع حكومي أو أهلي، وبالطبع تتفاوت أهمية هذه القطاعات، كما يتفاوت حجم الضرر في كلّ قطاع، لكن المحصلة أنّنا، وللمرّة الأولى في تاريخنا الحديث، أصبحنا نعاني بشدّة في كلّ قطاع ومجال.
يمكن تقسيم الضرر إلى قطاعين رئيسييْن، ثم نفرِّع منهما، كما تتقاطع بعض الفروع مع بعضها داخل القطاعين الرئيسيين اللذين يمثلان عوامل القوة لأي دولةٍ، داخليًا وخارجيًا، ومعلوم أنّ مفهوم "القوة" مركزي في علم السياسة، سواء في التفاعلات داخل الدولة، أو التفاعلات الدولية، ومقدار القوة هو الذي يحدّد وضع الجماعة السياسية داخليا، ومركز الدولة/ وضعها في النظام الدولي.
على مدى أكثر من 11 عاماً، حدث في مصر تدهور شديد لم يُستثنَ منه أي قطاع حكومي أو أهلي
بشكل عام، هناك عاملان لقوة الدولة: أولهما، العوامل الطبيعية التي لا تتدخّل الإرادة البشرية في تكوينها، مثل جغرافيا الدولة، والسكان، والموارد الاقتصادية. وثانيهما، العوامل الاجتماعية التي تتدخّل الإرادة الإنسانية فيها، مثل التجانس القومي، والتقدّم الثقافي والتقني، والقيادة السياسية، ولخطورة الحالة المصرية، سنحتاج إلى المرور السريع على كلّ عامل من هذه العوامل باختصار نرجو ألّا يكون مُخلًّا.
تعالج جغرافيا الدولة معطياتٍ، منها الموقع الجغرافي والمساحة والتضاريس والمناخ، وما يعنينا الموقع الجغرافي بالأساس، فقد كان مؤسّس مدرّسة الجيوبوليتيك فريدريك راتزل (1844-1904) يقول: "من المواقع الجغرافية ما يمثل قيمة سياسية بذاته"، وأبرز هذه المواقع: مواقع المرور الدولي مثل قناة السويس والمضائق مثل مضيق تيران، ولأهمية المضائق، اهتم الأميركان بضم تركيا إلى حلف شمال الأطلسي لمنع الاتحاد السوفييتي من الوصول إلى المياه الدافئة عبر مضيقي البوسفور والدردنيل.
كذلك، إطلال الدولة على البحار العامة يمثل أحد عوامل قوتها، لأهمية التحرّكات العسكرية في البحر، ولأهمية التجارة البحرية أيضا وعدم الحاجة إلى تعبيد طرق برية للتجارة الدولية، لذا تعد الأنهار والبحار من أهم عوامل النقل التجاري، فضلا عن الأهمية السياحية، لذا تسعى الدول الحبيسة (التي لا تطل على منفذ بحري) مثل إثيوبيا، إلى توفير ميناء لها على البحر الأحمر بالاتفاق مع إحدى دويلات الصومال، كما تسعى دوما إلى بسط نفوذها على إريتريا للسبب ذاته.
أما المساحة الشاسعة، فإنها تستمد أهميتها من عوامل، مثل الكثافة السكانية التي تغطي المساحة الجغرافية فلا تكون المناطق الحدودية فارغة من السكان ما يسهِّل اجتياحها، وأيضا مدى صلاحية هذه المساحة للحياة، كسهولة التضاريس، وتفيد هذه المساحة الشاسعة في جعل احتلال الدولة أمراً صعباً إذا كان لديها جيش قوي أو مقاومة شعبية، وهذه الفائدة تمتد حتى مع الهزيمة العسكرية للدولة، فالهزيمة مرحلة والاحتلال والاستقرار على الأرض أمر آخر، ودرس أفغانستان أمام القوى العظمى كاف للدلالة على أهمية صعوبة التضاريس واتساع مساحة الدولة.
بالنظر إلى الحالة المصرية، نجد مضيق تيران "الممر المائي الوحيد من البحر الأحمر إلى خليج العقبة وميناء أم الرشراش المحتل"، تنازل عنه السيسي للسعودية، وخطورة ذلك في تحويل الممرّ من مصري إلى دولي، وصحيح أن حرية الملاحة منصوص عليها في القانون الدولي، أيّا كان وضع الممر المائي، لكن بقاءه في يد الدولة يعني قدرة ضغط أكبر في حال الخلافات والمنازعات، وقد سبق في عام 2003 أن قدّم الاحتلال طلبا رسميا لمصر لتفكيك أجهزة لمراقبة الملاحة وضعتها في المنطقة وقوبل طلبه بالرفض، وكونه أصبح ممرّا دوليا، فذلك يعني سحب هذه الأفضلية، وبالتالي، تستفيد دولة الاحتلال من الوضع الجديد، وربما لم نسمع عن دولة تتنازل عن ممر مائي، بل نسمع عن احتلال ممرّات مائية، ما يضع علامات استفهام كثيرة على وطنية متخذ القرار.
لم نسمع عن دولة تتنازل عن ممر مائي، بل نسمع عن احتلال ممرّات مائية
كذلك المساحة الهائلة التي تطل مصر عليها بحريا أصبحت موضع بيع وشراء لأجل إنقاذ النظام السياسي من أزماته دون الأخذ في الاعتبار خطورة بيع أراضي الدولة، حتى إلى دولة عربية، فالأراضي يمكن الاتفاق على منحها بعقود انتفاع، وبانتهاء العقد تعود الملكية إلى الدولة، أما البيع فذلك يضعنا أمام تنازلٍ كاملٍ عن الأرض لمصلحة تتعلق بنظام سياسي لا مصلحة وطنية، إذ لا مصلحة أبدا في خسارة جزءٍ من الأرض.
ومن المعلوم أيضا تنازل الرئاسة المصرية عن حقول غاز في البحر المتوسط لمجرّد النكاية في تركيا وقت تفاقم الخلافات بين الدولتين، وتنازلها عن أخرى لصالح دولة الاحتلال التي تأخذ غازنا بإرادة السيسي، ثم نشتريه منها بعد ذلك، فيما أسماه الرئيس عبد الفتاح السيسي "جبنا جول"، وهو الهدف الذي أصاب المرمى المصري، بينما عبَّر هو عن الجهة التي ينحاز إليها.
أما المساحة، فبعيداً عن سوء التخطيط في توزيع السكان على مدار العقود والأنظمة، فإن إحدى ميزاتها هي توزيع المراكز الحيوية على تلك المساحة، مثل المراكز الحكومية والصناعية والعسكرية بما في ذلك النووية، فإذا تعرّضت الدولة إلى هجمة عسكرية، فإنها تستفيد من تشتيت مراكز الحكم والقوة في الدولة، فلا تنهار من ضربة واحدة، وهذا ما تحدّث عنه أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، عندما قال إن إسرائيل تجمع مراكزها الاقتصادية والخدمية في مربّع محدود وضربها سيعيد الاحتلال إلى العصر الحجري، وهذه إحدى أكبر مشكلات الاحتلال، لهذا ينظّم قادته دوماً رحلة طيران للمسؤولين الغربيين ليروا ضيق المساحة التي يتحرك فيها الاحتلال وحاجتهم إلى التوسع.
وقد قرّر الحكم في مصر تجاهل هذا المعطى الأمني المهم، فقرّر جمع الدولة كلها في قطعة واحدة أسماها العاصمة الإدارية الجديدة، وفي لحظة قد تنقطع كلّ أدوات التواصل العسكري والإداري إذا استمرّ مخطّط النقل وانتهى، وتعرّضت بعده الدولة إلى ضربة عسكرية، فضلاً عن انهيار الاقتصاد بضرب المراكز الصناعية.
المفارقة أن خطاب عسكرة الدولة يعتني دوماً بفكرة أن ضباط الجيش يدرسون جيدا مفهوم الدولة وأهميتها وكيفية الحفاظ على أمنها القومي، بينما يعلم أصغر دارس للعلوم السياسية أهمية المضائق والإطلال على البحار واتساع المساحة، ونعلم يقينا أن ذلك يُدرَّس في الكليات العسكرية، لكن الخطورة من وجود حاكمٍ يدّعي دوما معرفته بكل شيء ثم يتجاهل هذه الحقائق بعمد أو من دون عمد، وقد يتدخل أيضا في المناهج التعليمية العسكرية ليمحو كل خطاياه ويُخرج جيلا عسكريا جديدا لا يدرك أهمية الوطن ومواطن التدخّل المدمّرة له.
العامل الطبيعي الثاني السكان، ويشير إلى معطياتٍ منها التركيب السكاني والتجانس القومي، والتركيب السكاني يعني نسبة الشباب إلى الشيوخ والأطفال، والذكور إلى الإناث، والشباب هم عصب العملية الإنتاجية والجيوش، والتجنيد أحد أسباب أفضلية زيادة نسبة الذكور على الإناث بصورة معقولة. أما التجانس القومي فإنه يشير إلى الوَحدة الوطنية بين أفراد الدولة، واستبعاد أسباب التصادم المُفضي إلى الضعف والتحلّل.
المساحة الهائلة التي تطل مصر عليها بحرياً أصبحت موضع بيع وشراء لأجل إنقاذ النظام السياسي من أزماته
توجهت الأنظمة المتعاقبة في مصر إلى تخفيض عدد السكان، رغم اتساع الرقعة غير المأهولة بما يصل إلى 94% من مصر، كما عمدت السلطة منذ انقلاب انقلاب 3 يوليو (2013) إلى تمزيق المجتمع وتفتيت قواه إلى درجة الصدام المسلح، وتعزَّز هذا الوضع بخطاب عن قسمة المجتمع إلى مؤيّد ومعارض، انتهى إلى أزماتٍ معروفة في عموم مصر داخل الأسرة الواحدة والبناية الواحدة، وأصبح الجار يُبلغ عن جاره لمجرّد الخلاف السياسي، وأصبحت تهمة المعارضة أداةً لبعض الزوجات للتخلّص من أزواجهن والتنكيل بهم وإبعادهم عن أولادهم. كما سمح النظام بسرقة منازل المعارضين، سواء سرقة أجهزة الدولة تحت مسمّى المصادرة، أو سرقة مواطنين آخرين، فيكفي أن تكون معارضا لتترك منزلك ويستولي عليه آخر ولا تستطيع الإبلاغ عن ذلك، لأنك ستُعتقل إذا ظهرت أمام جهة أمنية. فإذا وصل مجتمع إلى تلك الحالة من الانقسام، فكيف ستصفو نفوس المختلِفين، وكيف ستتماسك الدولة وسط الانقسام المجتمعي أمام أي عدو؟!
العامل الطبيعي الأخير الموارد الاقتصادية، وتشمل المياه والمعادن والثروات الطبيعية والبترول ومشتقاته، وتوفر الموارد الاقتصادية مع إمكانية استخدامها او استخراجها يعطي الدولة تقدّما هائلا، وهو ما بدأته أوروبا في الثورة الصناعية، واحتلت لأجله معظم العالم وقتها، إما لاستخراج الموارد أو لتصريفها، كما هناك ما تسمّى بالدبلوماسية الاقتصادية، القائمة على استخدام القدرات الاقتصادية أداة للضغط أو الإغراء، ولا يمكن إغفال دور سلاح البترول في حرب 1973 لدعم الموقف المصري في أثنائها، ما يدلّل على أهمية الثروات الطبيعية. وفي مصر، كما سبق الحديث، يجرى التنازل عن حقول المتوسط، وتضييع الذهب، كما في المناجم العديدة في مصر، وأبرزها السكري الذي أغلقه الملك فاروق عام 1948 لتركه للأجيال القادمة.
بالنظر إلى العوامل الاجتماعية، نجد التجانس القومي أحدها. ورغم أن عوامل وحدة المصريين متعدّدة (بالنظر إلى أغلبية المصريين) كوَحدة اللغة والدين والأصل، فإن النظام عمد إلى إثارة النعرة الطائفية في مصر من جهة اصطفاف المؤسّسة الكنسية في صفّه بشكل صريح، وقد يُثار أن هذا موقف المؤسسة الدينية الإسلامية في مصر أيضا، وهذا صحيح، لكن الفارق بينهما أن الكنيسة المصرية لديها تأثير كاسح على تصويت معظم أبنائها بخلاف المؤسسات الدينية المصرية التي لا تستطيع تحريك نسبة ذات أهمية من عموم الناخبين المصريين المسلمين، وهذه المسألة لا تخطئها عين، وهذا الوضع لا تنبغي معالجته بالهجوم على الكنيسة أو المسيحيين، بل بتركيز الهجوم على النظام الذي هو أصل المشكلة.
بالنسبة إلى العرق، هناك أعراق مختلفة في مصر، كالنوبيين في الجنوب والأمازيغ في الشمال الغربي، لكنهم أقلية في العموم، إلا أن نظام يوليو (1952) همّش النوبيين منذ بناء السد العالي في 1962. ومن وقتها، هُجِّر النوبيون من موطنهم، ولم يُسمح لهم بالعودة، ويُمنع تدريس اللغة النوبية في المحافل العامّة لصغار النوبيين في القاهرة. ومن ناحية أخرى، هُجِّر بدو شمال سيناء من الحدود مع الفلسطينيين، ما أضعف خط الصد الأول أمام المخطّطات الصهيونية، ويُضاف إلى عمليات الإضعاف المجتمعي تلك ما ذكر اعلاه من عمليات التفتيت الاجتماعي على أساس الموقف السياسي، ما جعل عوامل التماسك الاجتماعي غير ممكنة، وتفتَّتَتْ الجبهات الشمالية والجنوبية للبلاد.
إضعاف العلاقة بين عموم المصريين والمؤسّسة العسكرية يشكّل خطراً شديداً على الدولة والمجتمع
العامل الثاني من العوامل الاجتماعية هو التقدّم الثقافي والتقني، وحدِّث ولا حرج عن الأوضاع الثقافية في مصر منذ عهد جمال عبد الناصر. وقد فقدت مصر قوّتها الناعمة على مدار عقود، وأصبح فنانون يتسابقون إلى مواسم فنية خارجية واكتساب جنسيات أخرى، وهذا حقٌّ لأي شخص، لكن البحث في أسباب الاندفاع إلى هذا هو ما يثير السخط على المسبِّب، لا المستجيب للأسباب.
تقنياً، الحال العربية معروفة والمصرية كذلك، فنحن ننتج القليل ونستهلك من دون حدود، والتقدم الذي لدينا في قطاعات محدودة، مثل الطب، نجده يرجع إلى الجهود الفردية للطبيب أولاً، ثم للمدرسة العلمية التي استفاد منها في الخارج خلال وقت دراساته الخارجية، وهجرة الأطباء ملحوظة للمعنيين بالشأن الطبي، وأغلب النبوغ في مصر يرجع إلى قدراتٍ فرديةٍ مثابِرة من الشخص الناجح، لا البيئة العلمية التي سمحت له بالنبوغ والتفوق.
ثم يأتي العامل الأخير من العوامل الاجتماعية، وهو القيادة السياسية، إذ هي محلّ وضع السياسات الداخلية والخارجية، وهي القَيِّمَة على أقوات الناس وأموالهم، فهي مطالَبة بالإحسان في جمع الأموال ثم صَرْفِها، وتَجْمعَ وتصرف بالعدل بين الفئات، كما أنها المطالَبة بتعظيم الأموال بحسن الاستثمار فيها على أنفع وجه للمجتمع.
وهناك قضية فلسطين التي وضعت المصريين، وفي المقدمة المؤسسات الكبرى، كالجيش والمخابرات، في موقف حرج، فمنذ متى لا تستطيع مصر أن تفتح المعابر لإدخال المساعدات إلى قطاع غزة؟ وبافتراض أن رواية الخوف من استهداف الإسرائيليين لها مقبولة، فمنذ متى لا تستطيع مصر أن تفتح المعابر للجرحى أصحاب الحالات الحرجة؟ هذا الموقف المخزي والمتواطئ من النظام وضع مؤسسات الدولة كلها في موقف الضعيف والجبان، وهو الموقف الذي يؤلم عشرات الآلاف من أبنائها الوطنيين والمؤمنين بأن العدو هو الإسرائيلي لا الفلسطيني، حتى وإن كان على خلاف مع أفكار فصيل هناك. وقد جعل الموقف من فلسطين وضع مصر على المستوى الشعبي محلّ ضعف شديد، فضلا عن قمع القوى الأهلية التي لا تستطيع التظاهر لدعم الفلسطينيين، ولن يكون ترميم علاقة مصر بمحيطها العربي سهلاً إذا استمرّت هذه السياسات العدوانية ضد المصالح الفلسطينية والمصرية والعربية على السواء.
سيحتاج الضرر الحادث في مصر سنوات طوال لمعالجته، وستكون معالجة شاقة
هذه العوامل، التي يصنفها علماء السياسة بعوامل القوة، نجدها، من دون مبالغة، مفقودة تماما في الواقع المصري، ويُضاف إليها عاملٌ خطير، وهو إضعاف العلاقة بين عموم المصريين والمؤسّسة العسكرية، وهذا الخطر شديد جدا على أي دولة ومجتمع، وقد فعل السيسي ذلك بأمرين؛ إذ بدأ حكمه بمجزرة لا سابق لها في التاريخ المصري، واستمرّ بعدها في فض التظاهرات تباعا مستخدماً قوات المؤسّسة العسكرية، وهي حالة كان يصفها العميد الراحل صفوت الزيات في تعليقه على الوضع في سورية بأن الجيوش لا تنتصر على أهلها بل تُهزم.
لعلّ أحكم ما قيل في هذا الشأن حوار درامي بين خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، رضي الله عنهما، في مسلسل "عمر"، ونُسب فيه إلى سيّدنا خالد: "كيف أبتهج بتغلّب بعضي على بعض؟ أي خصومة هذه التي لا تهنأ فيها بنصر ولا ترضي فيها بهزيمة؟!"، وهذا كلام العقلاء الذي كان ينبغي أن يدركه كل ضابط، وهو يقاتل متظاهرين بسلاحه، لا أن يبتهج بما فعل.
سيحتاج الضرر الحادث في مصر سنوات طوال لمعالجته، وستكون معالجة شاقة، لأن بطون قوم أصبحت خاوية وفقدت ثقتها بالدولة ومؤسّساتها، وهناك بطون امتلأت ولن تقبل أن تُنزَع منها امتيازاتها التي أخذتها بالتواطؤ مع السلطة. وهناك خسائر فادحة في الديون والاقتصاد والسياسة والاجتماع، وهذا الوضع لن ينتهي إلا بوجود قيادة وطنية تضع في مقدمة أولوياتها الشارع واحتياجاته، وإيقاف المهانة التي لحقت بالمؤسسات الكبرى وتصويرها ضعيفة، وهي ليست كذلك، والبدء في ترميم علاقة الدولة بالمجتمع عبر العدالة في توزيع الدخول، والتركيز على ملفّات التعليم والصحة باعتبارهما أولوية إنفاق، فيصير الأمر إلى أن يعتصم الناس بالدولة بدلاً من أن يعتصموا منها.