في ذكرى أحمد صدقي الدجاني... رجل الإجماع الفلسطيني
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.
حلول الذكرى العشرين لرحيل المفكر والمؤرّخ والسياسي الفلسطيني أحمد صدقي الدجاني (1936- 2003)، اليوم، 29 ديسمبر/ كانون الأول، في خضم حرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة على غزّة، مناسبة للتذكير بإرث واحدٍ من أعلام الشعب الفلسطيني ومناضليه الأوفياء، الذين اضطلعوا بمسؤوليات العمل السياسي، بجوار الانشغال بمجالات البحث والتدريس الأكاديمي، والتحليل الصحافي، والدفاع عن حقوق الإنسان الفلسطيني والعربي.
ولعل أول ما يلفت النظر في تجربة الرجل، على الصعد السياسية والعلمية والثقافية، وعيه المنهجي بثلاثة عوامل؛ أولها الزمن (تاريخًا وحاضرًا ومستقبلًا). وثانيها الهوية الواضحة المنفتحة، والتزامه اللغة العربية الفصحى، في عمله وكتاباته، وفي معاملاته اليومية البسيطة. وثالثها اقتران أفكاره بأفعاله وإرادته الجادّة في الشأن العام، حتى غدا مجسّدًا لأفكاره ومدافعًا ذكيًّا عنها، صانعًا لفعل "التجميع" ومبادرًا له، ورافضًا لممارسات "الإقصاء" و"الاستبداد السياسي".
وعلى الرغم من تنوع كتاباته، في حقول التاريخ والأدب والثقافة والسياسة، فقد هيمنت أربعة اهتمامات كبرى على منتوجه الفكري؛ قضية فلسطين، تاريخ ليبيا، الثقافة والهوية العربية، وضع العرب ومكانتهم وتفاعلاتهم، مع القوى الإقليمية والعالمية.
وفي إطار دراسته الصراع العربي الإسرائيلي، وفي قلبه قضية فلسطين، يمكن التمييز بين ثلاث مراحل متداخلة من كتاباته؛ أولاها تغطّي سنوات احتدام هذا الصراع قبل هزيمة 1967، ثم دخول الصراع "حقبة التسوية"، بعد حرب 1973؛ إذ ركّزت مؤلفاته في هذه المرحلة على دراسة أسس الصراع وطبيعته، ومؤسّسات الشعب الفلسطيني وأحواله ومشكلاته، والفكر القومي العربي، ولا سيما الناصري، في مواجهة دولة الاحتلال، فضلًا عن دراسة أدوار الدول العربية، خصوصًا مصر، في هذا الصراع، وأدوار القوى الدولية، ولا سيما الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ودول القارّة الأوروبية.
صكّ الدجاني مفهوم "الاعتصام بالمقاومة" في مواجهة محاولات قوى الهيمنة الدولية إملاء "اتفاقات الإذعان" على دولنا
وقد جاء إنتاجه في هذه المرحلة غزيرًا، وبلغ 15 كتابًا، منها: "من المقاومة إلى الثورة الشعبية في فلسطين" (1969)، "ماذا بعد حرب رمضان؟" (1974)، "نظرات في تاريخ فلسطين" (1978)، "منظمة التحرير الفلسطينية والحوار العربي الأوروبي" (1980)، "نحو استراتيجية عربية للمواجهة" (1984)، "صبرا وشاتيلا" (1984)، "الانتفاضة الفلسطينية والصحوة العربية" (1988)، "مستقبل الصراع العربي الصهيوني" (1988)، "الانتفاضة والتحرير" (1989)، "في الطريق إلى حطين والقدس" (1990)، "الانتفاضة وزلزال الخليج" (1991). أما المرحلة الثانية من كتابات الدجاني المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي، فقد جاءت بعد مؤتمر مدريد للسلام (30/10/1991)، أو بعد "إعلان المبادئ الفلسطيني - الإسرائيلي"، (المعروف باتفاق أوسلو 13/9/1993)؛ إذ تمحورت حول تشريح ذلك الاتفاق وبيان مخاطره على قضية فلسطين والأمن العربي ومستقبل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط. وأصدر في هذا الإطار ثلاثة كتب: "لا للحل العنصري في فلسطين: شهادة على مدريد وأوسلو" (1994)، "في مواجهة نظام الشرق الأوسط" (1994)، "أزمة الحل العنصري لفلسطين وسبيل تحريرها" (1999). وقد ألقى أضواءً كثيفة على أخطاء مسار أوسلو وأزماته البنيوية، التي قادت قضية فلسطين (والعالم العربي إجمالًا) إلى التهلكة، مقارنةً بإشادة الدجاني بنجاح تجربة الزعيم نيلسون مانديلا في تفكيك نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا (المشابه لنظام الأبارتهيد الإسرائيلي)، بالتزامن مع توقيع اتفاق أوسلو- 2، في القاهرة (4/5/1994).
وفي هذه المرحلة صكّ مفهوم "الاعتصام بالمقاومة" في مواجهة محاولات قوى الهيمنة الدولية إملاء "اتفاقات الإذعان" على دولنا، لكي نسلّم باغتصاب حقوقنا غير القابلة للتصرّف"؛ وكان يتبنّى مفهومًا شاملا للمقاومة يضم "كل فعل وكل موقف يواجه اغتصاب الوطن، واحتلال الأرض، وانتهاك حقوق الإنسان، والطغيان بشتى صوره. وبذلك يتضمن المفهوم جميع أبعاد المقاومة، الروحية والسياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية، وهي أبعاد متكاملة تتبادل التأثير في ما بينها".
مارس العمل السياسي والدبلوماسي وانخرط في الشأن العام، حتى بات من رموز الحركة الوطنية
وفي ما يتعلق بالمرحلة الثالثة من مساهماته، فقد جاءت بعد اندلاع انتفاضة الأقصى (28 سبتمبر/ أيلول 2000)، وفيها انصرف إلى كتابة مقالات أسبوعية ودراسات علمية تحلّل عوامل صعود المقاومة الفلسطينية وبيئتها الدولية، مع عناية خاصة بقضية القدس وتفاقم المخاطر المحيطة بها بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية (11– 25/7/2000)، ثم اندلاع انتفاضة الأقصى، إثر اقتحام زعيم حزب الليكود، آنذاك، أرييل شارون، باحات المسجد الأقصى في حماية الشرطة الإسرائيلية.
وكان واضحًا أن تشخيص الدجاني يؤكّد انتقال العمل النضالي الفلسطيني نحو مرحلة جديدة بعد الانتفاضة، كما تكشفه كتبه الثلاثة: "الخطر يتهدد بيت المقدس" (2001)، "انتفاضة الأقصى وتفجّر الحل العنصري في فلسطين" (2001)، "القدس وانتفاضة الأقصى وحرب العولمة" (2002).
واستطرادًا في تحليل جوانب تجربته، ثمة أربع ملاحظات منهجية تساهم في فهم أدقّ لها؛ أولاها أنه لم يكن دارس تاريخ فحسب (بالمعنى الحرفي أو التقليدي لهذا التخصّص، بل يمكن تصنيفه ضمن المدرسة التاريخية الاجتماعية الخلدونية)؛ إذ مارس العمل السياسي والدبلوماسي وانخرط في الشأن العام، حتى بات من رموز الحركة الوطنية، وتولّد لديه، منذ شبابه، الدأب على توثيق الأحداث وتأريخها وأرشفتها، ربما "حتى كاد أن يوثّق أنفاسه"؛ ما يؤكّد أن سيرته الشخصية وكتاباته تكادان تختصران التاريخ الفلسطيني المعاصر بمراحله المختلفة، علمًا أن مهامّ دبلوماسية، وأدوارًا في الوساطة بين بعض النظم العربية، اضطلع بها الرجل، وبقيت طي الكتمان، وكان يفكّر في أواخر عام 2003 بنشرها وتوثيقها في كتاب بعنوان "دبلوماسية النضال"، لكن المنيّة لم تمهله لإنجازه.
بقي طيلة مسيرته دارسًا ناقدًا لأداء الحركة الوطنية الفلسطينية، من دون الوصول إلى حد التشكيك
تتعلق الملاحظة الثانية بحرصه الشديد على "الاستقلال" وتجنّب "التحزّب والتعصب الفصائلي"، والتركيز على الانخراط في العمل المؤسّسي، فهو أحد مؤسّسي منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، وكتب تحليلًا لدور "المستقلين الفلسطينيين"؛ ففي كتابه "عن شعب فلسطين العربي: منظمته، ميثاقه، مشكلاته"، (دار المستقبل العربي، القاهرة، 1986)، رَصَدَ قدرة المستقلين على القيام بأدوار توافقية/ تقريبية، بين الفصائل الفلسطينية، استنادًا إلى أنهم شخصيات وطنية، ليس لها ارتباط تنظيمي أو علني بالفصائل الفلسطينية. ولعل تجربة الانقسام الفلسطيني المريرة وتداعياتها الكارثية المستمرة (2007- 2023)، تؤكّد أهمية وجود "تيار ثالث" يكسر حدّة الاستقطاب، أو "مستقلين فلسطينيين" يسهرون على إنجاز الوحدة الوطنية وتوثيق أواصراها، وتجاوز سلبيات "الخطاب الفصائلي".
تتعلق الملاحظة الثالثة بكونه أحد دعاة الوحدة الوطنية، الباحثين عن "معادلات الإجماع الوطني"، لكنه بقي طيلة مسيرته دارسًا ناقدًا لأداء الحركة الوطنية الفلسطينية، من دون الوصول إلى حد التشكيك، ناهيك عن "الانشقاق"، أو إضعاف النسيج الوطني، من دون أن يمنعه ذلك من أن يكون مع شفيق الحوت (عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وممثلها في لبنان)، وكلاهما من أبناء مدينة يافا، أبرز الأصوات المعارضة من داخل مؤسّسات منظمّة التحرير، لاتفاق أوسلو المشؤوم.
وعلى الرغم من اتخاذ الدجاني نهجًا معارضًا لاتفاقيات أوسلو، فقد كان يتجنّب القطيعة ("الفُجْر في الخصومة" حسب مصطلحه)، فلم يمانع مثلًا في إرسال رسالة تضامن للرئيس الراحل ياسر عرفات إبّان حصاره في مقر المقاطعة برام الله، منذ ربيع 2002.
اقترح مفهوم "دول الجوار الحضاري"، أو مفهوم "الدائرة الحضارية للوطن العربي" ليعطي للعلاقات العربية – التركية - الإيرانية عمقاً حضارياً وثقافياً
تتعلق الملاحظة الرابعة بأفكاره حول الهوية والثقافة العربية ووضع العرب ومكانتهم وتفاعلاتهم مع القوى الإقليمية والعالمية؛ فقد اقترن شعوره الفلسطيني بالأبعاد العربية والإسلامية والإنسانية، ضمن فكرته عن "تداخل دوائر الانتماء"، على هذه الصعد، وكان يتوقّع "إزدهار مدرسة العمران الحضاري" في الفكر القومي العربي، ما يؤدّي في المحصلة إلى تقارب أكبر بين التيارين القومي والإسلامي، ما ينسجم مع تولّيه منصب المنسق العام الأول للمؤتمر القومي الإسلامي (1994 -1997).
وفي سياق اهتمامه بوضع العرب ومكانتهم وتفاعلاتهم مع القوى الإقليمية والعالمية، اقترح مفهوم "دول الجوار الحضاري"، أو مفهوم "الدائرة الحضارية للوطن العربي" لكي يعطي للعلاقات العربية – التركية - الإيرانية عمقا حضاريا وثقافيا يتجاوز الجوار بمعناه المادي أو الجغرافي؛ فالبعد الثقافي الجوهري لا يجب أن يتأثر بتذبذب العلاقات السياسية بين النظم الحاكمة في تركيا وإيران والدول العربية؛ إذ ثمّة أهمية خاصة للاهتمام بالمستوى الشعبي لعلاقات العرب مع جوارهم الحضاري، من دون الاقتصار على المستوى الرسمي أو النخبوي.
باختصار، كان الدّجاني "مثقّفا موسوعيًّا"، ونجح، إلى حد كبير، في تقديم رؤية متماسكة للصراع العربي الإسرائيلي وسبل إدارته بتعظيم مواطن قوة الطرف الفلسطيني/ العربي، في مقابل الضغط على مواطن ضعف إسرائيل وداعميها، للوصول بساسة الاحتلال وقوى الهيمنة الغربية إلى "نبذ الفكرة الصهيونية"، كونها تخلق أزمات، ولا توفّر حلولًا حقيقية للصراع العربي الصهيوني؛ إذ تنبأ مفكّرنا في آخر كتبه "زلزلة في العولمة وسعي نحو العالمية: تحرير وعدل فسلام" (2003)، بأن النظام العالمي يسير في هذا الاتجاه، بمعنى تفكّك الهيمنة الغربية، والتحوّل نحو "عالمية" تُنصف الإنسان الفلسطيني والعربي، ولو بعد حين.
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.