في سؤال استمرارية نموذج الربيع العربي الانتفاضي
باحث وصحافي مصري معتقل، رئيس مؤسسة مدى للتنمية الإعلامية، وكبير مستشاري المركز الإقليمي للوساطة والحوار.
مع اقتراب اكتمال عقدٍ على حقبة الربيع العربي، هناك ضرورة لفهم لها، ولما خلّفته من تداعيات وما أثارته من قضايا، أعمق من اعتبار ثوراتها أنها ثورات الميديا الجديدة. ذلك أنه من دون الوصول إلى هذا الفهم، مع السعي إلى التعبير عنه وصياغته في مشاريع لإعادة بناء الدولة العربية المأزومة؛ سيظل ما يحكم نظرة الفواعل الدولية للمنطقة هو "الحدّ من الآثار السلبية لمشكلات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على مناطق أخرى من العالم"، وهذا بالمناسبة مما يختلف معه موقف المواطن العربي الذي ترى أكثريته أن الربيع العربي إيجابي، وإنْ عانى من تعثرات، فقد أظهرت نتائج "المؤشّر العربي 2019 – 2020" أن أكثرية الرأي العام العربي (58%) لا تزال تعد هذه الثورات ظاهرة إيجابية، في مقابل 28% عدّتها سلبية.
يجادل كاتب هذه السطور في أن هناك سردية جديدة لانتفاضات الربيع العربي تعلن نهاية صيغ القرن العشرين، وفي القلب منها دولة ما بعد الاستقلال والحركات السياسية الإسلامية والعلمانية التي استندت إلى أيديولوجياتٍ شمولية، وأننا بصدد صيغ جديدةٍ لم تتمأسس بعد؛ فقد غلب عليها الاحتجاج وافتقدت إلى بلورة قاعدتها الاجتماعية الحاضنة والدافعة لها، وإن اتخذت مظاهر قيمية وثقافية عميقة؛ فما ظهر بشكلٍ ملموسٍ هو عجز الحركات الاجتماعية أو اللاحركات الاجتماعية (مهما كان اتساعها ومهما بلغت مثابرتها، وحتى حين ترفع مطالب محدّدة)، عجزها عن تحقيق ما تصبو إليه.
سردية جديدة لانتفاضات الربيع العربي تعلن نهاية صيغ القرن العشرين، وفي القلب منها دولة ما بعد الاستقلال والحركات السياسية الإسلامية والعلمانية التي استندت إلى أيديولوجيات شمولية
يحاول بعضهم إلصاق عدم الاستقرار وتصاعد الصراعات بحقبة الربيع العربي؛ ففي رأيهم قوّض الاستقرار السياسي والاقتصادي في عدد من الدول، وأشعل ثلاث حروبٍ أهلية، وترك عشرة ملايين لاجئ ونازح، معظمهم في سورية ولبنان والأردن وتركيا. ولكن هذا الحديث يغفل اعتبارين هامين: ضرورة التمييز بين جوهر الربيع العربي وعدم القدرة على إدارة مقتضيات الفترات الانتقالية. والربيع العربي، في موجتيْه، هو تطلّع الشعوب العربية، وخصوصاً الفئات الشابة، إلى الحرية والعدالة الاجتماعية والحكم الرشيد، واحتجاجٌ على الفساد وسوء توزيع الدخل. هو تعبير عن تحول تاريخي في المنطقة، يعلن نهاية الصيغ القديمة في السياسة والثقافة والاجتماع، وبحثٌ عن جديد لم يتبلور بعد. هو إعلان عن نهاية حقبة وبداية أخرى جديدة، فالمنطقة تعيش في طور انتقالي بين قديم مرتحل وجديد لم يتمأسس بعد. ومن ثم، نحن نعيش مرحلة خلو العرش بتعبير زيغموند باومان في كتابه "الحداثة والهولوكوست" (ترجمة حجاج أبو جبر ودينا رمضان، تقديم عزمي بشارة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات).
أما الفشل في إدارة الفترات الانتقالية، فحدّث ولا حرج؛ ومن كل الأطراف: قوى التغيير لم تدرك طبيعة الزمن الانتقالي، فلم تسعَ إلى بناء التوافقات، وتعضّ عليها بالنواجذ؛ فنجاح مسار بعد الثورات لا يُعَدّ دائماً أمراً مؤكداً، وأحد محددات تحقيق الثورات أهدافها كيف تتصرّف نخب التغيير. وقوى الثورة المضادّة، داخلياً وإقليمياً، حرّكتها ولا تزال مصالحها الضيقة الآنية، فأشعلت الصراعات في كل ركن.
القراءة التاريخية لانتفاضات الربيع العربي هي أننا أمام إعادة تشكل للتاريخ كله في المنطقة. نحن أمام محطة تاريخية فاصلة، فالقديم قاد إلى الانفجار، ولم يعد قادراً على تقديم استجابات لتحدّيات المجتمع والدولة. لكن الجديد لم يتبلور بعد، وهذه هي مهمتنا التاريخية، واللحظة تمتلئ بالكثير والكثير مما يصبّ في المستقبل، وبمقدار قدرة الفواعل الاجتماعية على التقاط مقوّمات هذه اللحظة نكون على أول طريق الاستقرار.
الجديد لم يتبلور بعد، وهذه هي مهمتنا التاريخية، واللحظة تمتلئ بالكثير والكثير مما يصب في المستقبل
وثمّة عدم إدراك لطبيعة الفترات الانتقالية التي عادة ما تسودها الهواجس والمخاوف، لا الحقائق والوقائع؛ ومن ثم لا قدرة على بناء التوافقات المرحلية أو القطع مع الممارسات السياسية التي سبقت التغيير. وما يميز الفترات الانتقالية انبعاث التناقضات المسكوت عنها، حين يتصاعد الجهوي/ المحلي، والإثني، واللغوي، والطائفي، والمذهبي والديني، بالإضافة إلى المطالب الاقتصادية والاجتماعية، ومن دون تطوير مقاربات واقتراحات جديدة للتعامل مع هذه التناقضات، سيكون تحقيق الاستقرار أمراً مستحيلاً. كذلك تتسم الفترات الانتقالية بطرح سؤال الهوية الوطنية، وقد أجمعت الدراسات على أنه لا نجاح لتحول ديموقراطي من دون التوافق على هوية وطنية جامعة. ومع القناعة بأن الانتفاضات الديمقراطية العربية ستساهم في بلورة الهوية الوطنية كما يجري في لبنان والعراق، إلا أنه يجب أن نكون متنبهين لاستخدام معارك الهوية لتبرير الصراع السياسي، وكذا محاولة بعض الهويات الفرعية الهيمنة على المشهد السياسي؛ ساعين إلى تحقيق مكاسب جزئية على حساب بناء الهوية الوطنية الجامعة. وفاقم الأمر انبعاث الوعي بمشاريع متناقضة تثير حماسة جهات معينة، وهواجس فئات أخرى، مثل الحديث عن المشروع الإسلامي أو العثمانية الجديدة أو الهلال الشيعي.
يتسم الطور الانتقالي العربي بأن الدولة باتت محلّ تساؤل، بحيث يصير المطلوب بناءها بإعادة التفكير فيها؛ فالتحدّي الأساسي الذي تواجهه الجماعة الوطنية في كل قطر عربي، إحداث تحوّل ديموقراطي ذي جوهر اجتماعي؛ أحد شروط نجاحه إعادة بناء الدولة، ولكن من خلال طرح صيغ جديدة لإعادة البناء، فقد انتهت صيغة دولة ما بعد الاستقلال، ويجري ذلك في ظل تحلل لمفهوم الدولة في مخيال المواطن العربي، وتبديد للرأسمال التاريخي الذي أنجز على مدار القرن الأخير في بعض الأقطار، وسمح بإنشاء مؤسساتٍ ذات تقاليد راسخة أدّت إلى أداء الدولة وظائفها باستقلال عن توجهات النظام السياسي، بحيث بتنا الآن أمام معضلةٍ تصيب كل الدول العربية، أن: استمرار الدولة مرهونٌ باستمرار النظام السياسي الحاكم، خصوصاً في ظل تحلل الدولة الوطنية إلى عناصرها الأولية من طائفية وقبلية وإثنية وجهوية ومذهبية.
الحراك العربي تحدّى النماذج المعرفية التي بنت عليها كل الأطراف نظرتها إلى الشعوب العربية
وسمات النموذج الانتفاضي: أولاً، الإنسان/ السر الذي يتبدّى في ثلاث ظواهر متكاملة: عدم القدرة علي توقع سلوكه وتصرّفاته، وتعقيد الدوافع والأسباب المحرّكة التي لا يمكن تفسيرها بشكل مادي فقط، وفي الوقت نفسه، لا يمكن إغفال الجوانب المادية منها، وأخيراً الاهتمام بخصوصية الإنسان بصفته إنساناً بأبعاده الفريدة المركّبة، وبخصوصية السياق الذي يعيش فيه.
وقد أثبتت الانتفاضات العربية، في موجتيها، عدم القدرة على التنبؤ، سواء من خبراء المنطقة أو محترفي المنظمات الدولية أو الفواعل الدولية والإقليمية، أو حتى حكام الدول العربية وزعماء المعارضة فيها. وأزعم أن الحراك العربي قد تحدّى النماذج المعرفية التي بنى عليها كل طرف من هؤلاء نظرته إلى الشعوب العربية. ويمكن أن تساق أدلة وأمثلة عديدة على ذلك. ويُكتفي بنماذج ثلاثة: رأى حسني مبارك في مصر ومعمر القذافي في ليبيا بعد ثورة الياسمين في تونس أن بلديهما على خلاف تونس. أما البنك الدولي وصندوق النقد الدولي فكانا يبشّران بالنمو الاقتصادي الذي حققه نموذجا بن علي في تونس ومبارك في مصر، ومثلت الاحتجاجات العربية صدمة لهما، دفعتهما لاحقاً إلى إعادة النظر في المفاهيم المستخدمة في تحليل الواقع العربي وتطوير اقترابات جديدة وإضافة مؤشرات مختلفة للنظر إليه (انظر تقرير البنك الدولي عن اقتصادات الربيع العربي وتوابعه). أما الولايات المتحدة وأوروبا، فقد فوجئتا بما حدث، ما أربك متخذي القرار فيهما، فلم يستطع أن يحسم موقفه إلا بعد زمن. (انظر مذكرات الرئيس الأميركي السابق، أوباما، "أرض موعودة").
أي حدث مهما كان كبيراً أو صغيراً، لا بد أن يتكشف عن خليط بالغ التعقيد من التأثيرات والأسباب والنتائج
ثانياً، شدة التعقيد. من الخصائص المميزة للقرن الواحد والعشرين، بما يؤدي إلى تفاعل عوامل متعدّدة، مادية وقيمية، مع بعضها مع بعض، وزيادة التواصل بين ملايين البشر، حيث يتأثر الكل بأفعال الآخرين في سياق عملية ديناميكية دائمة، فيتواصل التغيير والتعديل. وفي النظم المعقدة، يمكن فعلاً بسيطاً أو فرداً واحداً (محمد بوعزيزي مثالاً) أن يغير النظام ككل، أو بعبارة أخرى، من شأن تحرّك فرد واحد أو جماعة صغيرة في نظام معقد متزايد الترابط أن يؤثّر في مجمل النظام بسرعة فائقة. وهنا نقطة تحسُن مناقشتها، فقد قدّمت تفسيرات متعدّدة للحراك العربي، أرجعها بعضهم إلى تطورات المشروع النيوليبرالي وتداعياته على بعض الفئات الاجتماعية، خصوصاً من جهة تغير العقد الاجتماعي، فيما اهتم باحثون بتطورات العمران في المدينة العربية، وزيادة قاطني العشوائيات بها من جهة تأثيره بطبيعة الاحتجاج ونوعيته التي اتسمت بالعنف. وقدّم آخرون اقتراب الدولة العربية المأزومة مفسّراً لهذه الاحتجاجات. وهناك تفسيرات أخرى، إلا أن من الضرورة النظر إلى هذه العوامل جميعاً من جهة ما يحدث بينها من تناسق وتناغم، نتيجة شبكية التفاعلات، ويصبح التحدّي كيفية إدراك العوامل المتعدّدة في تفاعل بعضها مع بعض وتراكم تأثيراتها. ومن هنا تصير قدرة تحرّك واحد على إطلاق حركة تغييرية شاملة للنظام ككل، بالإضافة إلى صعوبة التنبؤ به؛ فالظواهر دائمة التغير. أي حدث مهما كان كبيراً أو صغيراً، لا بد أن يتكشف عن خليط بالغ التعقيد من التأثيرات والأسباب والنتائج؛ جميعها مشروطة بالأخرى، ومتأثرة بها ومتوقفة عليها.
ثالثاً، خصوصية الإنسان واختلاف سياقاته تعطي للظواهر، وإنْ تشابهت في الدوافع والأشكال، تمايزاً واختلافاً في الخبرات والمسارات، وتصبح التشكلات التاريخية ومسار بناء الدولة وتكوينات المجتمع وضرورات الجغرافيا السياسية من محدّداتٍ عديدة، ترسم مسارات الانتفاضات وتمايزها من قُطرٍ إلى آخر. ولا يعني ذلك، في أي حال، عدم وجود المشتركات والدروس التي يمكن تبادلها مع الإقليم أو العالم من حولنا.
لا يزال استخدام مسائل الهوية للحشد والتعبئة من أطرافٍ عدة في موجتي الربيع العربي، لكنها كانت سبيلاً إلى زيادة النفوذ السياسي وتحقيق مكاسب انتخابية
رابعاً، من أيديولوجيا الهوية إلى خطابات المعاش. وفي هذه النقطة هناك ملمحان: الأول أن المطالب المتعلقة بمعاش الناس الكريم صارت الأولوية الأولى لهم متقدّمة على أيديولوجيا الهوية. أدرك أنه جرى، ولا يزال استخدام مسائل الهوية للحشد والتعبئة من أطرافٍ عدة في موجتي الربيع العربي، لكنها كانت سبيلاً إلى زيادة النفوذ السياسي وتحقيق مكاسب انتخابية، أو استخدمت للتغطية على قضايا أخرى، أو لتحقيق التماسك للقاعدة الاجتماعية المساندة. الطريف أن الاحتجاجات تقدّم أمثلة متعدّدة لتجاوز القاعدتين، الاجتماعية والتنظيمية، للحركات السياسية لموقف قادتهم؛ حين سارعوا إلى الانضمام إلى الحراك، فما كان من قادتهم إلا أن لحقوا بهم بعد أن رفضوا المشاركة فيها أول الأمر، وقد جرى ذلك في لبنان والجزائر والعراق في 2019، كذلك جرى في مصر واليمن والمغرب في 2011. الملمح الثاني في هذه النقطة أن المطلوب الآن ليس حديثاً في المرجعيات الأيديولوجية والأطر الفكرية العامة، ولكن تقديم سياسات عامة وبرامج تفصيلية، من شأنها أن تعالج مشكلات الناس الواقعية، وتجيب عن أسئلتهم الصغرى، فالسياسة الآن باتت تدور حول معاش الناس، وجوهرها انتقال بالخاص إلى العام.
وتبقى نقطة أخيرة، تحسن مناقشتها هنا: هل التعدّدية في المكونات الأيديولوجية الأربعة (قومي وليبرالي وإسلامي ويساري)، التي باتت حقيقة واقعة في المجالات كافة؟ وفي المجال السياسي خصوصاً تدور حول سياسات عامة متنوعة، لها انحيازاتها الاجتماعية الواضحة، أم هناك عجز في بعض التجارب عن تقديم هذه السياسات العامة، بدليل استمرار معاناة الناس وتراجع الأحزاب السياسية في أي استحقاق انتخابي.
إيجازاً، أولوية المواطن العربي الآن هي الملف الاقتصادي الاجتماعي، لا جدالات الهوية. ودور المرجعيات الفكرية المتعدّدة هو تقديم حلول من خلال السياسات العامة لمشكلات الواقع، وليس الوقوف عند منطلقاتها النظرية، وتقدّم هذه الحلول في المجال السياسي عبر السلطة العامة، وليس عبر آليات المجتمع المدني أو التبشير الثقافي فقط.
المطالب المتعلقة بمعاش الناس الكريم صارت الأولوية الأولى لهم متقدّمة على أيديولوجيا الهوية
ثالثاً: الحرية، اسم جامع لظواهر وقيم كثيرة. وهنا يساعدنا النموذج المعرفي للميديا الاجتماعية على إدراك جوانبها المتعدّدة: المعلومات والبيانات صارت ديموقراطية، نتيجة القدرة على إنتاج المحتوى وتجهيزه وتدويره وتوزيعه والتحكم فيه من عدد غير محدود من الأفراد والمجموعات بما يتجاوز أية سلطة مركزية أو مؤسّسية، بما فيها سلطة الدولة. نحن هنا بإزاء غياب للمركز/ السلطة بمعناها الواسع، والمرجعية والمطلق. ويعني هذا انقضاء فكرة الخطاب السديد، والقول النهائي، والتحوّل إلى فكرة القول المناسب الذي يعني مناسبته أو ملاءمته في ظرف زمني ومكاني ومجتمعي محدد، وأصبحت النسبية الشديدة في القول والفعل هي الحاكمة لمجمل النموذج المعلوماتي المقدّم في الإعلام الاجتماعي، فهناك سيولة شديدة في المحتوى المقدّم، وقد أدّت هذه الظاهرة إلى عدم العمق الثقافي والمعرفي، فتدفق المعلومات لا ينشئ بالضرورة معرفة.
غياب المركزية، وتأكيد اللاسلطوية، أدّيا إلى "ثورات بلا قيادات"، على حد تعبير كارين روس، أو قيادة غير عضوية/ فضفاضة، بتعبير عبد الوهاب المسيري في توصيفه الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987). وهنا تحسن الإشارة إلى أن السلطة الأبوية قد سقطت في نفوس شباب الانتفاضات وشاباتها؛ وهو ما لم تستطع نخب الحكم، باعتبارها آخر معاقل السلطة الأبوية في المجتمع، أن تدركه "كلن يعني كلن".
لقد سقطت سلطة الأب في الأسرة نتاج عوامل اجتماعية واقتصادية، وسقطت سلطة المدرس/ المؤسسة التعليمية، وسقطت سلطة الشيخ/ القس والمؤسسة الدينية، وسقطت سلطة أجهزة الدولة العربية، باعتبار أن جيلنا (الثمانينيات من القرن الماضي) آخر من شهد سلطة هذه الأجهزة، حين تعلم في مدارسها وتخرّج من جامعاتها وعمل في بعض مؤسساتها، ولكن الأجيال التالية تهاوت في نفوسها هذه السلطات جميعاً، ثم كان إسقاطها رأس النظام إسقاطاً لآخر رموز السلطة الأبوية في المجتمع، وهذا يفسّر لماذا لم يفلح مع هؤلاء الشباب والشابات الخطاب الأبوي الذي حاولت الأنظمة أن تستميلهم به.
تحدّي الانتفاضات العربية هو قدرتها على أن تنبع السلطة من أسفل، وتتسع لقاعدة شعبية أوسع
الملمح الأساسي أننا بصدد إعادة صياغة لعلاقة المواطن العربي بالثيمات الكبرى في حياته، في علاقته بالوطن والأسرة والدين والذكر والأنثى إلى آخر ما هنالك من تيمات أو ما ظن أنها محرّمات، ويتواكب مع ذلك الاستهلاك الشره والسريع للمحتوى والرموز والمؤسسات التي تتفاعل في المجال العام، فهناك تجاوز سريع ومتسع لها. وفي جوهر هذه الظواهر، تأتي قيمة التعدّدية قيمة مركزية؛ فشبكية التفاعلات تزيد من تصاعد حضور المحلي/ الجهوي والإثني والديني... إلخ. وهذا يمثل تحدّياً مهماً للدولة القومية (تأثرت بصيغتها دولة ما بعد الاستقلال في المنطقة) التي تفترض التجانس في مقابل النزعة الشبكية التي تفترض التنوع والتعدّد. وترتبط بنزعتي الحرية والتعدّدية أيضاً نزعة فردية شديدة، فقد تعاظم دور الفرد، في الإعلام الاجتماعي، في إنتاج المحتوى وتدويره والتفاعل معه، وذلك في مقابل المؤسسة المحترفة التي كانت تستقل بإنتاج المحتوى، كما ازدادت مسحة تعبير الفرد عن ذاته. وهنا فقدت الوكالة في المجال السياسي أهميتها، واستعاد الناس سلطة حسم الأمور لأنفسهم. وكلما اقتربنا أكثر من إدارة شؤوننا بأنفسنا، نحصل على نوع من الإشباع والإنجاز، وربما على نوع من المعنى. لذا يغدو المعنى الذي جسّدته شعارات الانتفاضات العربية الأهم من كل شيء. وهنا كان إبداع النموذج الانتفاضي العربي، حين رأى أن استعادة المعنى (الكرامة والوطن والعدالة والحرية) يمتزج ولا ينفصم عن الحاجات الأساسية من خبز ومأوى وصحة.
وأخيراً، إن تحدّي الانتفاضات العربية هو قدرتها على أن تنبع السلطة من أسفل، وتتسع لقاعدة شعبية أوسع، وهو ما عجزت عنه. بعبارة أخرى، الانتفاضات العربية تعيد تعريف السياسة التي جوهرها حق الناس في إدارة مختلف شؤون حياتهم كما يتمنّون.
وأخيراً، من سمات النموذج الانتفاضي، حضور نسائي طاغٍ: تقدّمت النساء في هذه الانتفاضات الصفوف متجاوزة ثنائية الذكر/ الأنثى التي حكمت التفكير النسوي التقليدي والخطابات الإسلامية التي تقوم على الفصل بينهما مستندة إلى تأويلات محافظة للنص الديني. وتجاوزت المرأة هذه الممارسات نحو أفق المواطنة، ولم تعد داعمة وإنما فاعلة ومحرّكة ومشاركة. وسيكون لهذا الاقتراب الجديد الذي دشنته انتفاضات الربيع العربي تداعيات على حضور النساء في المجال العام، خصوصاً أن هذا المنظور يدعمه تطور آخر، هو أن قضاياهم باتت تطرح ليس من منظور نسوي ضيق، ولكن في علاقتها بالقضايا العامة الأخرى، وهذا من شأنه أن يوسّع القاعدة الاجتماعية الداعمة لها.
باحث وصحافي مصري معتقل، رئيس مؤسسة مدى للتنمية الإعلامية، وكبير مستشاري المركز الإقليمي للوساطة والحوار.