في ضرورة تجدد الثورة اللبنانية
هدفت ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، إلى تغيير النظام السياسي اللبناني برمته. فقد تبنّت شعاراً هو "كلّن يعني كلّن". بعد عامٍ اتجهت التحقيقات في هذا البلد إلى مساءلة حلفاء حزب الله في تفجير مرفأ بيروت (4 أغسطس/ آب 2020)، وكان هذا سبباً في إزاحة محقّق عدلي سابق، وإطلاق الدعاوى ضد المحقق العدلي القاضي طارق بيطار، ليتنحّى أو يُنحى. فيما جاهر الرجل، وقد هُدّدَ مباشرة من قياديٍّ كبيرٍ في حزب الله، بإصراره على الاستمرار في التحقيق، وأيّدت ذلك محكمة التمييز. وقد شكل موقف القضاء هذا، إضافة إلى انتصار المحامين المحسوبين على الثورة في انتخابات نقابة المحامين توجّساً مخيفاً لدى حزب الله. لم يترُك الحزب طريقةً لمواجهة الثورة إلّا ومارسها؛ فحاول تطييفها، وحرق خيم المعتصمين، وهاجم المتظاهرين في قلب العاصمة، وأرعب الشيعة المشاركين بالتظاهرات، وغير ذلك كثير. أيضاً، وحينما تطوّرت التحقيقات، ووجِّهت دعوات إلى نواب ووزراء سابقين للتحقيق معهم، شعر حزب الله بضرورة إيقاف التحقيقات؛ فادّعى تسييس القضاء، وأن استدعاء شخصيات من حلفائه أمر كيدي. وخوفه الحقيقي يكمن في استدعاء شخصياتٍ من أنصاره، سيما أن تحقيقات صحافية أوجدت صلة له بسفينة نترات الأمونيوم التي فَجرت أطنانٌ منها مرفأ بيروت، ودمّرت أحياء كاملة، وقتلت نحو مائتين وجرحت آلافا.
تمسّك المؤسسات القضائية باستقلاليتها، أربك حزب الله، فكان لا بد من اللجوء إلى الشارع، ومحاولة اصطناع حوادث أمنية، طائفية عنيفة، تهدّد اللبنانيين وتنذر بحربٍ أهلية واسعة، ما لم يتنح طارق بيطار. وقضية حزب الله هنا تكمن في تصفية حسابات مع الثورة التي قوّت القضاء، ودفعت رجالات منه ليبتعدوا عن المحاصصات الطائفية، حيث النظام الطائفي يتدخل كذلك في تعيين القضاة. "شذوذ" بيطار وفادي صوان، والمحاكم العليا، أشعر حزب الله وحركة أمل وتيار المردة بالخطر وضرورة التحرّك.
مشكلة حزب الله الإقليمية أنّ السعودية أصبحت رافضةً هيمنته على لبنان
لم يكن النزول إلى الشارع، يوم الخميس الماضي (14 أكتوبر) سلميّاً خالصاً، حيث الأسلحة جاهزة للإطلاق، كما تبيّن. كان حزب الله وحركة أمل يهدفان إلى فرض معادلة جديدة، يتم فيها استفزاز المناطق "المسيحية" لتبادر الأخيرة إلى إطلاق الرصاص، أو أنّ هناك تدبيراً خفيّاً ما يُظهِرُ الأمر على هذا النحو! حيث راح يهتف متظاهرو حزب الله، وسط أحياءٍ مسيحية "شيعة شيعة شيعة" وشعارات طائفية أخرى. وبالتالي أوجد ذريعة كبرى من أجل إيجاد معطيات جديدة، تطرح ليس فقط معادلة إقالة طارق بيطار أو الحرب الأهلية، بمعنى الصمت عن ممارسات حزب الله وشركائه وطيّ ملف مرفأ بيروت أو الحرب الأهلية التي سينتصر بها حزب الله، باعتباره الحزب الوحيد المجهّز بأصناف كثيرة من الأسلحة.
المعطيات الجديدة، التي يستهدفها حزب الله، أنّ شركاءه المسيحيين قد أفلسوا بعد الثورة التشرينية، وسيفشلون في أيّ انتخابات نيابية مقبلة، وحتى هذا الحزب تراجعت شعبيته بشكل كبير، وصار لا بد من دماءٍ جديدةٍ في النظام الطائفي ليتمكّن من فرض الهيمنة عليه، وحيث لا يستطيع ذلك بمفرده. مشكلة حزب الله الإقليمية أنّ السعودية أصبحت رافضةً هيمنته على لبنان، وهذا ما تتداوله النقاشات الجارية في بغداد بين ممثليها وممثلي إيران، وبالتالي رفضها تقديم أيّ دعمٍ مالي أو تسهيلات سياسية. الطرف القوي في الساحة "المسيحية" هو حزب القوات اللبنانية بالتحديد، وبالتالي، سيدفعه تفجير الوضع اللبناني أخيرا إلى صدارة المشهد، وهذا ما صار ملحوظا، يكرّس الإعلام طرفين أساسيين بخصوص الوضع اللبناني، حزب الله من جهة وحزب القوات اللبنانية من جهة أخرى؛ (شيعي/ مسيحي)، وبالطبع ستكون حصة السُنّة هامشية، نظراً للتشتت الواسع في تياراتهم.
نظراً إلى خطورة الأوضاع الأمنية قد يُطلب من القاضي بيطار إمّا التنحّي أو تأجيل التحقيقات إلى أوقات لاحقة
لقد قُتل سبعة أشخاص في "موقعة الطيّونة" الخميس الماضي، وكاد الوضع أن يتطوّر أكثر فأكثر. وأغلب الظن أن الزعامات الطائفية والسياسية تُجري حالياً نقاشاتٍ عاصفةً بشأن إبعاد طارق بيطار عن ملف التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، أو تأجيل التحقيقات إلى وقت لاحق، وربما تُحدَّد أوقات قريبة لانتخابات مجلس النواب، المقرّرة بعد حوالي ستة أشهر أو أزيد. هذا اللعب، سنقرأ الحديث عنه في الأيام المقبلة، وتوقف المناوشات العسكرية مساء يوم الخميس لا يعني أنها غير قابلةٍ للتجدّد. الأوضاع مشحونةٌ للغاية طائفياً، وهناك حجّة، وهي القتلى، وضرورة التحقيق بهذه القضية. وبالتالي، ونظراً إلى خطورة الأوضاع الأمنية قد يُطلب من القاضي بيطار إمّا التنحّي أو تأجيل التحقيقات إلى أوقات لاحقة، ريثما تهدأ النفوس "الطائفية"!
الكرة الآن بيد حزب القوات اللبنانية، وعليه أن يقرأ المعادلة الجديدة، وتتحدّد بأن يكون هو وحزب الله طرفيها. هذا ما تفكر به الزعامات السياسية الطائفية "الشيعية". ولا يشكّل رفض التيار الوطني الحر (ميشال عون) وتيار المردة وسواهما أي قيمة تذكر، إذ أفلس كليا تحالف التيار الوطني الحر وحزب الله، وأصبح عالةً على الأخير، ولتجديد هيمنته على لبنان، لا بد من معادلةٍ طائفية جديدة.
خارج الحسابات الطائفية هناك تكمن مسألة تجديد الثورة لنفسها. الثورة المتجدّدة هي من ينقذ القضاء المستقل من الخضوع، وتدفع به نحو إنصاف المتضرّرين من تفجير المرفأ، وهي من تهدّد النظام الطائفي. حزب القوات اللبنانية طائفي، ويهمّه موقعه الطائفي في النظام اللبناني، وأن يكون هو المهيمن في الساحة المسيحية، ويعمل من أجل مصالح كبار قيادييه، وهؤلاء، وفي حال وُجدت صفقة قوية تحفظ مصالحهم، وتستمر بتطييف الشارع المسيحي سيدخلون فيها بالتأكيد. الأسابيع والأشهر المقبلة ستتجه نحو ذلك.
التعطيل الذي يقوم به حزب الله، المسيطر فعلياً على الدولة اللبنانية، سيُلهي بقية الأطراف اللبنانية بكيفية تجاوز الإشكال الذي استجدّ أخيرا
الوضع الآن خطير في لبنان، والسلاح أصبح في الشارع من جديد، ومؤسّسات الدولة معطّلة، ورأينا كيف أن الوزارة الجديدة غير فاعلة، وحتى قبضة مؤسسة الجيش ضعيفة، لتتمكّن من فرض سيطرتها. التعطيل الذي يقوم به حزب الله، المسيطر فعلياً على الدولة اللبنانية، والذي فَشِلَ في تطويع سلطة القضاء، سيُلهي بقية الأطراف اللبنانية بكيفية تجاوز الإشكال الذي استجدّ أخيرا، والاستمرار في تعطيل التحقيقات كذلك. والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية تتدهور أكثر فأكثر، وهذا يشيع أجواء رافضة لهيمنته تلك.
شعور الناشطين بالثورة بالهزيمة أخطر ما يواجه لبنان، واختيار كثيرين منهم ترك لبنان وصفة كاملة لخرابٍ كبير، يتمنّاه حزب الله ولا يتأخر عن التفنن بأشكاله؛ مجدّداً: ما يُنقذ لبنان من أزماتٍ معقدة ومن حرب أهلية ومن معادلةٍ طائفيةٍ جديدة، لن تتورّع القوى الطائفية عن الوصول إليها، هي الثورة من جديد، وأن تستفيد من أخطائها، وأن تكون بالفعل عابرةً لكل لبنان، ومانعة لأيّ قوى طائفية من "الركوب عليها".