في عار جدل جواز الترحّم على شيرين أبو عاقلة
ثار نقاشٌ مسمومٌ بين بعض المُتَدَيِّنينَ المسلمين عقب استشهاد مراسلة قناة الجزيرة، شيرين أبو عاقلة، الشهر الماضي (مايو/ أيار) برصاصة من قناص إسرائيلي في مخيم جنين. حينها اتحد الشعب الفلسطيني، بمسلميه ومسيحييه، في الموقف من جريمة الاغتيال، ونعتْها المساجد كما الكنائس، وشارك المسلم كما المسيحي في جنازتها، وتعرّضوا جميعاً لاعتداء قوات الاحتلال وهم يشيعون جثمانها ويحملون نعشها ويذودون عنه. إلا أن بعضاً من المتفذلكين ممن حُرموا الحكمة لم يأبهوا لجلالة موقف الموت وعظم الجريمة وتعاطف العالم مع الضحية، التي كانت شاهداً على مظلومية الشعب الفلسطيني وإجرام الاحتلال الإسرائيلي، أبوا إلا أن يصرفوا الأنظار عن المجرم الإسرائيلي، وأن يستفزوا معركة جانبية عمادها عدم جواز الترحّم على أبو عاقلة بذريعة أنها غير مسلمة و"كافرة". بل إن أحدهم، وهو "متخصّص" في بعض الحقول الشرعية الإسلامية كتب على صفحته على "فيسبوك" إنه حذف ترحّمه عليها، ذلك أنه كان يظنّ أنها مسلمة ابتداء، ثمَّ شنَّ هجوماً كاسحاً على كل من يصرّ على "تدنيس" قواعد الإسلام عبر التمسّك بالترحم عليها بعد أن علم أنها ماتت "كافرة"! كان ذلك الشخص مجرّد واحد من آلاف لّوَّثوا المُصاب وحرفوا البوصلة، وأساءوا لا للضحية والمظلومية الفلسطينية فحسب، بل وللإسلام نفسه. وصدق الله جلَّ جلاله: "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ" (البقرة: 269). واضح أن أولي الألباب عملةٌ نادرة عبر الأزمان والأجيال والمكان والأديان والأعراق.
لا يهدف هذا المقال إلى نكء جرح قد التأم، فهو لم يلتئم أصلاً، إذ نكأ ذلك النقاش السخيف جراحات أكثر غوْراً سيكون من الصعب مداواتها. هدف هذا المقال التنبيه إلى بعض أعطاب بنيوية في تفكير بعض المسلمين، وفي منهجية بعض المنتسبين إلى العلم الشرعي، وإلى ضعفٍ في قدراتهم الاستيعابية، وعزلة عن الواقع يعيشونها. وصاحب هذه السطور مسلم ملتزم يؤمن يقيناً أن الإسلام دين الله الخاتم وهو الفيصل، لا يخفي تديّنه أبداً ولا يخجل في ذلك، وَيُسَلِّمُ رضاً وحباً بقول المولى جلَّ وعلا: "مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ" (الأحزاب: 36). وجزء من تديني أني أغار على ديني من بعض العقليات البليدة التي تريد أن تجعل من الإسلام نقمة على البشرية لا رحمة لها، يقوم على العداء لكل من يقاربونه "آخر"، حتى ولو كان مسلماً مثلهم متبعاً لفقه معتبر متباين مع ما يعدّونه فقهاً. هؤلاء مشاركون، من حيث لا يدرون، في ترسيخ صورةٍ بغيضةٍ عن الإسلام يريد خصومه، حتى ممن ينتسبون إليه اسماً، ترسيخها عنه.
لو كان هناك حكم بَيِّنٌ، حازم وقاطع بشأن مسألة ما في القرآن الكريم والسنة النبوية، لما اختلف العلماء، قديماً وحديثاً
أيضاً، لا يهدف هذا المقال إلى الخوض في تفاصيل وحيثيات فقهية عميقة ومُتَخَصِصَةٍ أثيرت في هذا السياق، فهناك من أهل العلم الثقات الراسخين من كفانا مؤونة ذلك. ومع أنني لست من أهل هذا الفن وهذه الحرفة، إلا أن مسألة التعامل مع موضوع التخصّص تتم بانتقائية نكدة، ذلك أن غالبنا يتكلم في كل شيء، ثمَّ ترانا نتحول إلى "كهنة" نَعُدُّ أنفسنا وحدنا المؤتمنين على أسرار "معبدنا"، عندما يتجرّأ آخرون على الخوض في ما نزعمه حقلاً لنا.
أعلم أن هذا المقال سيجر عليَّ ويلات وشتائم وعداوات، وقد خبرتُ بعضها عندما كتبت عن جريمة اغتيال أبو عاقلة، ودعوت لها بعفوية بأن يرحمها الله. لكني أؤمن أن الإسلام ليس فيه كهنوت يصادر تفسير الدين ويحتكره، ويريد أن يفرض على الناس صورة مشوهة عنه، وأؤمن أنه جاء ليطلق ملكة التفكير ويوسّع الآفاق، ويسيح فيها عبر مدارس معتبرة، مهما اختلفت، في الفقه والحديث وكل العلوم الشرعية الأخرى. ومن الثابت أن الآيات القرآنية الكريمة التي تدعو إلى إعمال العقل والانخراط في التفكر والتأمل والتدبر أكثر من أن تعدّ وتحصى.
ولأن بعض أهل العلم من الثقات الراسخين قدّموا شروحات وردوداً فقهية قيمة ومعتبرة على الحَدِّيينَ الذين لا يرون العالم إلا عبر ثنائيات تضادّية، ولأن بضاعتي الفقهية مزجاة هنا، فإني أحصر كلامي في بعض العموميات وفي بعض القضايا المنهجية، إذ إنهما أمران لا احتكار فيهما لأحد. وعلى أي حال، يجد جلَّ ما أطرحه سنده في أقوال وآراء وأحكام لعلماء أفذاذ.
بداية، ليس من حق فريق هنا أن يحتج على فريق آخر بموضوعة التسليم المطلق بذريعة وجود حكم يقرّره القرآن الكريم والسنة الشريفة، ذلك أنه لو كان هناك حكم بَيِّنٌ، حازم وقاطع، لما اختلف العلماء، قديماً وحديثاً، في هذه المسألة. أحد الذين تكلموا في "كفر" (مصطلح الكفر في هذا السياق بحاجة إلى تحرير، لكن هذه قضية أخرى) شيرين أبو عاقلة، واتهم كل من قال بجواز الترحّم عليها في دينه، زعم إن هذه ليست قضية خلافية، وعليها "إجماع" علماء المسلمين منذ القدم، وسفّه وشنع على كل من قال بغير ذلك، وحشد دلائل على غير رأيه. المفارقة أن هذا الشخص يحمل الدكتوراة في حقل علمي طبيعي، لا شرعي، ولكن التحيّز يعمي الناس عن القسط في الحكم، فلو قال بغير ما يؤمنون به، لكانوا عابوا عليه أنه ليس من أهل العلم الشرعي. ثالثة الأثافي، أن يسارع بعضهم إلى خلط قبيح وخبيث بين من له رأي مخالف لرأيهم، مسنوداً بأدلة، وبين من يدعون إلى تعويم الأديان، كمشروع "الديانة الإبراهيمية". هذه قمّة الوقاحة، وقمّة انعدام الأمانة العلمية والمروءة عندما تصدر عن بعض من يزعمون إنهم أهل علم راسخ، فهم ليسوا أكثر غيرة على الإسلام من غيرهم ممن يحيون به ومن أجله.
في هذا السياق، نحن نعلم أن اختطاف طرفٍ ما "المُقَدّس" وزعمهم تجسيده، وبالتالي إعطاء أنفسهم حق مصادرة تدبر وَتَفَكُّرِ آخرين من أهل العلم في أمور الدين باسمه (أي المقدّس)، مسألة خطيرة عانت منها البشرية، باختلاف مللها ونحلها، قرونا طويلة، وكان منها أمة الإسلام، ولا ينبغي أن نسمح لتلك الفئة التي لا تنتعش إلا في الظلام وعلى حطام الجهل أن تزدهر على حساب العلم والحرية الفكرية والأكاديمية. بل لا ينبغي لنا أن نسمح لهم أن يعيدوا اجترار الكوارث التي أنزلوها بهذه الأمة عبر استهداف الأئمة والفلاسفة والعلماء المبدعين من المسلمين في الطب والفلك والرياضيات .. إلخ، وتشويههم والبطش بهم وقتل بعضهم، بـ"اسم الله".
الآيات القرآنية الكريمة التي تدعو إلى إعمال العقل والانخراط في التفكر والتأمل والتدبر أكثر من أن تعدّ وتحصى
ثارت في صدر الإسلام خلافاتٌ منهجيةٌ كهاته التي نعيشها اليوم، وكان أحدها متمحوراً حول التعامل مع القرآن والسنة. ترتب على ذلك تمايزٌ بين مدرستي الرأي والحديث منذ القرن الأول الهجري. مثل الأولى مذهب الأحناف، والثانية مذهب المالكية، غير أن هذه الفترة عرفت مصالحة بين المدرستين، انبثق منها مدرسة يسميها بعضهم: "فقهاء أهل الحديث"، كما يشرح يوسف القرضاوي، وكان إمامها هو مالك بن أنس نفسه. أما القرن الثاني الهجري فقد شهد بروزاً لخطوط التصدع الشرس بين المدرستين، حيث شنَّ تلاميذ الإمام أحمد بن حنبل، من مدرسة الحديث، هجوماً شرساً على فقهاء الحنفية، واصمين إياهم بكل الرزايا، التي وصلت إلى حدَّ التكفير. ونحن اليوم ما زلنا نعيش تداعيات تصدّر بعض الصغار المشهد بعد مضي الكبار من الأئمة الأعلام. وعلى الرغم من بروز علماء كبار على مدى القرون اللاحقة، ممن ينتمون، منهجياً، إلى مدرسة "فقهاء أهل الحديث"، كالعزّ بن عبد السلام، وابن دقيق العيد، وابن تيمية، وابن قيم الجوزية، إلا أنهم لم يتمكّنوا من إصلاح العطب في العلاقة، ذلك أن من زعموا وصلاً بهم وأنهم من أتباعهم، إلى حدِّ اليوم، خالفوا منهجهم، وعمّقوا الشرخ أكثر بين المدرستين.
وحتى نبتعد عن الاستطرادات هنا، انتهينا في ظل الصراع بين المدرستين إلى منهجين في التعامل مع الحديث الشريف والسنة النبوية، هما مدرسة المحدثين، أو الأثريين، ومدرسة الأصوليين. وقد اختلفا في أمور كثيرة، حتى في تعريف الحديث والسنة النبوية. وفي هذا كلامٌ كثير. لكن ينبغي التوضيح هنا أن المحدثين الكبار، كابن حنبل والبخاري ومسلم، وغيرهم كثير، كانوا أقرب إلى مدرسة "فقهاء أهل الحديث"، وبالتالي، أي نقد سابقٍ وتالٍ لا ينصبّ نحوهم. وحتى نبقى في موضوعنا، انتهى الأثريون إلى أنه، في حال تعارض حديثٍ صح عندهم سنداً مع ظاهر القرآن، يقدّم الحديث بناء على صحة الرواية ولا يردونها، ذلك أن فيهم من يرى أن "السنة قاضية على الكتاب، وإن الحديث أصل بنفسه، ولا حاجة به لعرضه على الكتاب" (معتز الخطيب: "رد الحديث من جهة المتن: دراسة في مناهج المحدثين والأصوليين": ص 203-204). وبالتالي، فقد ردّوا كثيراً من استدراكات السيدة عائشة رضي الله عنها على الصحابة في أحاديث وردت في الصحيحين. وفي حالاتٍ أخرى، ردّت أحاديث يرويها بعض الصحابة بناء على قولٍ آخر سمعته، أو فعل شهدته مباشرة من الرسول عليه السلام.
أما المدرسة الأصولية، فإنها لا تختزل غربلتها للحديث في صحة السند ومتانة روايته، بل إنها تقاربه أكثر لناحية متنه، ولأصحابها في هذا السياق معايير شتّى في رَدِّ الرواية متناً، خصوصاً في أحاديث الآحاد، ومن ذلك في حال مخالفتها القرآن، أو مخالفتها صحيح الحديث ومشهوره، أو تعارضها مع العقل. بل إن عدداً من الصحابة الكبار، كعائشة وعمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين عرفوا بعرض الحديث، حتى وإن صحّ سنداً، إذ إن راويه صحابي معاصر لهم، على القرآن في حال وجود تعارض ظاهر، وفي هذا أيضاً كلام كثير.
أليس من العار أن كثيرين ممن يُخرجون شيرين من رحمة الله يترحمون على طغاة مجرمين، بذريعة أنهم ماتوا على الإسلام وهم ألدّ أعدائه
مرّة أخرى، لا أريد الاستطراد هنا، ولكن ما سبق مهم جداً، ذلك أن كثيرين ممن احتجّوا على "كفر" أبو عاقلة، وعدم جواز الترحّم عليها، استدلوا بأحاديث عن نهي الله عز وجل الرسول عليه الصلاة والسلام عن الاستغفار لوالديه لأنهما ماتا على "الكفر"، مع أن القرآن الكريم يقرّر بحسم ووضوح: "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا" (الإسراء: 15). حتى الاستدلال من القرآن نفسه عن نهي الله عز وجلَّ إبراهيم عليه السلام الاستغفار لوالده يغفل السياق: "وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ" (التوبة: 114). ينسحب الأمر على عمِّ الرسول، أبو طالب، مع صرف النظر الآن عما في ذلك من أقوال، ولكن هل يعقل أن تقاس شيرين أو غيرها، على من علم يقيناً أن الإسلام دين الله، ولم يؤمن به؟
آن الأوان أن نعلن رفضنا المبدئي منطق الترهيب الفكري والتشويه والإقصاء وزعم طرفٍ امتلاك الحقيقة المطلقة ومحاولته خنق كل رأي مخالف، حتى حين يكون صادراً عن ثقة صاحب علم متين، الذي ينتهي، في العادة، نهباً لإغراء السفهاء والحمقى ينهشون لحمه وعرضه ودينه وكرامته حياً. وآن الأوان أن نعترف أن إحدى نقاط ضعف بعض طلبة العلم الشرعي أنهم لا يولون اهتماماً بالدراسات المنهجية الإنسانية والاجتماعية، مع أن المسلمين ساهموا فيها إسهاماً عظيماً، وأفاد الفقهاء الكبار في ذلك واستفادوا. أيضاً، آن الأوان أن ندرك أن الفارق بين العميل الخبيث والمخلص السفيه هو النية فقط، أما الضرر فواحد، بل هو أعظم في الثانية. وما أروع وأرقى وأعظم القرآن الذي نتلوه إلى يوم الدين وهو يقرّر: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (الأنبياء: 107). أين الثرى من الثريا؟ رحم الله شيرين أبو عاقلة، أمر نرجوه لها ولنا وهو بيد الله وحده. وأخيراً، أليس من العار أن كثيرين ممن يُخرجون شيرين من رحمة الله يترحمون على طغاة مجرمين، بذريعة أنهم ماتوا على الإسلام وهم ألدّ أعدائه، وبطشوا بأهله، وأبقوهم في قاع الأمم؟ رحمة الله ليست بيد أحد، ولا ينوب عنه في الأمر أحد، فارفعوا أيديكم عن الإسلام فأنتم من أكثر ممن يسيء له، حتى ولو بحسن نية.