في غياب سردية فلسطين الأفريقية قبل حرب السويس
عنون الزعيم الجنوب أفريقي الأسود، ألبرت لوتولي A. Luthuli، الحائز جائزة نوبل للسلام (1961)، مذكّراته Let My People Go: An Autobiography ، (1962)، بمستهل الإصحاح الخامس من سفر الخروج "أَطْلِقْ شَعْبِي (لِيُعَيِّدُوا لِي فِي الْبَرِّيَّةِ)، ودلت سردية لوتولي، رئيس المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC) حينذاك، على جنوحٍ تام، ومفهوم تاريخيًا عند تفكيك أسسه، لبناء تناصّ بين نضال شعب جنوب أفريقيا و"التجربة التاريخية اليهودية"، وما استتبعه من تعاطف واستشراف رؤى مشتركة ظل مهيمنًا في واقع الأمر على التيار السياسي والفكري الرئيس للنخبة الأفريقية بمكوناتها ومشاربها بالغة التنوع، لصالح تهميشٍ ملفتٍ للمسألة الفلسطينية والشعب الفلسطيني، بل وغياب أية سردية أفريقية متماسكة للمسألة الفلسطينية، واعتبار فلسطين أرضًا مشاعًا (بلا شعب) أمام الهجرات اليهودية لنقلها من حالة "البربرية" إلى مرحلة التمدين، وإن خفّت حدة هذه "الانطباعية الإمبريالية" الأفريقانية بعد علو تيار الاستقلال الوطني الأفريقي، سيما عقب حرب السويس (23 ديسمبر/ كانون الأول 1956).
فلسطين وبواكير "الوعي الأفريقي": تداعيات النزعة "الأنجلو - إسرائيلية"
تفسر الصلة الأميركية - الأفريقية واليهودية منذ القرنين الخامس عشر والسادس عشر وثوقية رؤية النخب الأفريقية المحدثة "لأرض فلسطين" من منظور ديني ووفق تفسيرات الكتاب المقدّس. وعند التتبع التاريخي لمسارات هذه الصلة، يلاحظ إرجاع بعضهم حضور اليهود في الأميركيتين منذ وصول كريستوفر كولومبوس إليها في العام 1492 وبصحبته لويس دو توريس Luis de Torres (أسباني أجاد عدة لغات أوروبية إضافة إلى العبرية والعربية، توفي في 1493) الذي تحول إلى اعتناق اليهودية، واعتبار كثير من الكتابات المعاصرة لتلك الحقبة أن عددًا من سكان "العالم الجديد" ينتمون "لقبائل إسرائيل المفقودة". وحسب المؤرّخ والمبشر خوان دو توركومادا J. de Torquemada (ت. 1624) فإن بارتولومي دو لاس كاساس Bartolomé de Las Casas (ت. 1566) كان أول من اقترح أن أصول سكان أميركا الجنوبية تعود إلى تلك القبائل المفقودة([1]). وهكذا عزّز "المجاز" الإسرائيلي الذي نشط في القرن التاسع عشر في بريطانيا وأجزاء متفرقة من أوروبا أولًا، ثم في الولايات المتحدة (ومن ثم في المناطق المستعمرة من القارّة حتى قبل مؤتمر برلين 1884-1885 بعقود) تكوين هوياتٍ دينيةٍ عرقية جديدة، منها "النزعة الإسرائيلية البريطانية" British Israelism ونظيرتها الأميركية اللتان أصبحتا نافذتين للغاية كيفًا وكمًا في القرن 19 لدى قطاعات من سكان الجزر البريطانية والولايات المتحدة ممن يعدّون أنفسهم أحفاد "القبائل المفقودة"، بل والذين نظروا، في بعض الأحيان، إلى اليهود المعاصرين باعتبارهم "منتحلين الهوية اليهودية"([2]).
تفسر الصلة الأميركية - الأفريقية واليهودية منذ القرنين الخامس عشر والسادس عشر وثوقية رؤية النخب الأفريقية المحدثة "لأرض فلسطين" من منظور ديني ووفق تفسيرات الكتاب المقدّس
وطوّر جون ويلسون John Wilson (1799-1870)، باستخدام العرقية العلمية و"علم الفراسة المسيحية" Christian phrenology (وفق شكل الدماغ)، الأيديولوجية الأنجلو - إسرائيلية في سياق مساعيه إلى ترسيخ دور بريطانيا العظمى ورسالتها في العالم، عبر فكرة "قبائل إسرائيل المفقودة". واستكمل تلميذه إدوارد هاين E. Hine (ت. 1891) الدفاع عن فكرة النزعة الأنجلو - إسرائيلية، وانتشرت تداعياتها في الأميركيتين وبين الأميركيين السود في الولايات المتحدة وأقرانهم في أفريقيا بمرور السنوات([3]).
تفسّر السياقات المذكورة تماهي النخب الأفريقية المحدثة، وغربية التكوين بالأساس، بارتباطاتها الكولونيالية الواضحة والمتشابكة، طوال القرن التاسع عشر وحتى بدايات النصف الثاني من القرن العشرين على الأقل، كما سيرد، مع ادّعاءات الجماعات اليهودية وداعميها في فلسطين، وتجاهل "استشراقي" للنظر إلى الأخيرة على أنها بلاد أرضًا وشعبًا؛ وعزّز هذه التصورات المشوّهة طبيعة نظر تلك النخب لفكرة الدولة وغياب تأسيس تاريخي حقيقي لها (أو نظيره في دول مثل مصر والعراق) والاقتصار ربما على نظرة رومانسية (هلامية في أحيان كثيرة) إلى أرض الأجداد في أفريقيا.
إدوارد بلايدن وتكريس الصهيونية أفريقيًا
كان المفكر الأفريقي الأبرز في القرن التاسع عشر، إدوارد ويلموت بلايدن E. W. Blyden، الأكثر اتصالًا بفلسطين (وبيروت معًا) والأوضاع بها (ضمن مشروع اهتمام أكبر بالمشرق العربي قامت عليه جمعية الاستعمار الأميركية بالتعاون مع جهات كنسية وتبشيرية عدة في الدول العربية منتصف القرن 19)، ووضع بلايدن كتابًا شهيرًا بعنوان "من غرب أفريقيا إلى فلسطين" From West Africa to Palestine (1868) رصد فيه "بعين استشراقية لمثقف أسود" وقائع زيارته مصر ولبنان وفلسطين([4]). واتضح تكريس بلايدن فكرة الصهيونية كأيديولوجيا يمكن استعارتها أفريقيًا منذ نهاية القرن التاسع عشر، ونشره كتيبًا بالغ الأهمية في موضوعه بعنوان "المسألة اليهودية" (1898) فسّر فيه (حسب رؤيته) توازيًا في التاريخ بين الزنجي واليهودي: فكلاهما، كما شرح المؤرخ التريندادي هوليس ر. لينش Hollis R. Lynch شخصية بلايدن في مؤلف مهم (1967)، لديه تاريخ من المعاناة البالغة، ما ساعده على تطوير جانب روحي في طبيعة كل منهما، على نحو يؤهلهم (الزنوج واليهود) لأن يكونوا قادة العالم الروحيين. وطوّرت هذه الرؤية على نحو كامل في الكتيب المذكور (المنشور في ليفربول بانجلترا وكان ملفتًا إهداء بلايدن في صدر الكتاب للتاجر اليهودي البارز في ذلك الوقت، لويس سولومون، صاحب التجارة الكبيرة مع غرب أفريقيا)، ووصف بلايدن "الكتيّب" بأنه "تسجيل لرؤى أفريقي عن أعمال ومصير شعب يرتبط عرقه عن كثب به سواء بالإعلان المقدس (الإلهي) وبتاريخ شبه متطابق (بينهما) من الأسى والقمع". ويعيد في الكتيّب سرد زيارته القدس (1866)، وعبر فيه عن اهتمامه العميق بالحركة المذهلة المسمّاة "الصهيونية"، التي يمكن القول إنها ترجع إلى نشر تيودور هرتزل Theodor Herzl مؤلفه "الدولة اليهودية Judenstaat" (1896)، ودعوته فيه إلى "تكوين دولة معترف بها دوليًا في فلسطين"، وعطف بلايدن على رغبة اليهود في العودة إلى "موطنهم" بالتزامن مع تعاطفه مع عودة "الآلاف من ذوي الأصول الأفريقية في أمريكا" إلى آراضي آبائهم([5]).
تماهي النخب الأفريقية المحدثة، وغربية التكوين بالأساس، بارتباطاتها الكولونيالية الواضحة والمتشابكة، طوال القرن التاسع عشر وحتى بدايات النصف الثاني من القرن العشرين على الأقل
وهكذا غابت سردية فلسطين وشعبها تمامًا عن رؤية بلايدن، كما يتضح في تناوله العابر السكان الفلسطينيين، وشكايته من تخلفهم سلوكيًا حسب ملاحظاته. وفي المقابل، غلب التصور التوراتي على ذهنية بلايدن الذي كان في مهمةٍ تتعلق بالعمل التبشيري مع مؤسّسات أميركية سواء في القاهرة أم في بيروت، إلى أرض الميعاد والقدس، كان لها تأثيرها في الأجيال اللاحقة من النخب الأفريقية المحدثة.
فلسطين والمثقف الأفريقي والاستيعاب الاستعماري
قدّم الباحث النيجيري، ناثانيل أكينريمي فاديبي Nathaniel Akinremi Fadipe (ت. 1944)، الذي عمل عن كثب مع القيادي الأفريقي البارز جورج بادمور G. Padmore، إسهامًا دالًا في المسألة الفلسطينية اتضح في إعدادهما "مطوية" قدمت لمؤتمر رؤساء وزراء الإمبراطورية (1944) Empire Prime Ministers' Conference ، ثم العمل على إعداد ورقة عن الاستيطان (في غرب أفريقيا) ربما كانت استجابة عملية لنية الحكومة البريطانية تعزيز هجرة ما بعد الحرب العالمية إلى شرق أفريقيا ووسطها ومشروع توطين "اللاجئين اليهود" في شمالي نيجيريا. ووضع فاديبي ورقة بعنوان "أفريقيا والاستيطان الأبيض"، تعامل خلالها مع مصادرة المستوطنين البريطانيين أراضي الأفارقة وحشرهم في "معازل" وفرض نظم ضرائب جائرة عليهم. ورأى فاديبي أنه ليست ثمّة مشكلة في استيطان الأوروبيين المستعدين لرعاية مزارعهم إن تمت أولًا تلبية حاجة "الأهالي" natives من الأراضي، وطالما "حظيت مصالح الشعوب السوداء بثقل مصالح البيض نفسه"([6]). ولم تخرج تصورات فاديبي عن المسألة الفلسطينية عن الأطر الفكرية التي حكمت عمل "رابطة الشعوب الملونة" League of Coloured People في بريطانيا. وتدلّ على ذلك صلاته الوطيدة مع الرابطة، واتحاد طلاب غرب أفريقيا WASU (المؤسّس في لندن، 1925)، وبادمور نفسه الذي سهل له مقابلات منتظمة مع الأميركيين الأفارقة، ومن بينهم رالف بونشي R. Bunche (لندن 1937) خلال توجهه إلى شرق أفريقيا، ورجّح باحثون أن مقابلته مع بونشي قادت إلى ترشيح الأول ليكون "ممثلًا محتملًا لغرب أفريقيا في المؤتمر الدولي حول أفريقيا International Conference on Africa الذي تقرر وقتها عقده في واشنطن في أوائل 1943، واقتصر حضوره، في النهاية، على وفود من داخل الولايات المتحدة فقط، لظروف الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من التحول الواضح في توجه فاديبي نحو مقاربة أكثر راديكالية في مسألة الاستعمار ومعاملة "السود في مطلع الأربعينيات:، فإن رؤيته "المبدئية" للمسألة الاستيطانية لم تشهد تغيرًا يذكر حتى وفاته (1944)([7]).
ويتضح من رؤية فاديبي قبوله مبدئيًا مسألة الاستيطان الاستعماري في أراضي الوطنيين (سواء الأوروبيين في الأراضي الأفريقية الخصبة، أم "اليهود" في شمالي نيجيريا حيث يوجد ادّعاء تاريخي بوجود أصول يهودية لسكان مناطق قريبة منها سيما بين إثنية الإيبو في شرقي نيجيريا الحالية)، وأن وجه تحفظ فاديبي يكمن في حدود هذا الاستيطان وضرورة الحفاظ على نصيب "الوطنيين" من أراضٍ كافية؛ الأمر الذي يبرّر جزئيًا التعاطف "الأفريقي" مع الاستيطان الصهيوني ودينامياته، وما نتج عنه من تكوين دولة صهيونية على أراضي فلسطين.
الوعي الأفريقي داخل "الجدار الحديدي"
انخرطت إسرائيل منذ قيامها في صراعات ممتدة، ورأت نفسها باستمرار تواجه تهديدات وجودية. وحسب المؤرّخ الإسرائيلي آفي شلايم Avi Shlaim فإن جميع الحكومات الإسرائيلية استرشدت بمبدأ أن "السيادة اليهودية في الشرق الأوسط لن تتحقق إلا بالقوة والردع، عبر جعل إسرائيل بالقوة التي تجعل أعدائها يرون استحالة كسرها" ودفعهم، في النهاية، إلى الاستسلام والكف عن مقاومتها. وهي استراتيجية وصفها شلايم "بالحائط الحديدي"، في إشارة إلى مفهوم صاغه للمرّة الأولى في عشرينيات القرن الماضي الزعيم الصهيوني، زائيف جابوتينسكي، واقتفى أثره جميع القادة الإسرائيليون لاحقا([8]).
وقدّم كل من الجامايكي ماركوس جارفي M. Garvey (1887-1947)، والغاني جورج بادمور G. Padmore (1903-1959) مثالًا على انحسار الوعي الأفريقي بمسألة فلسطين "وإسرائيل" داخل حدود جدار الفكر الصهيوني. وإذا كان ماركوس جارفي من الجيل الذي عاصر واعيًا إرهاصات تكوين الدولة الصهيونية منذ الحرب العالمية الأولى، ورأى بشكل عام أن فكرة "الصهيونية" هي سعي "أقلية مقهورة" تفرقت في أرجاء أوروبا إلى تقرير المصير، ورؤية كثير من النشطاء السود أن قيام "إسرائيل" مثل ضربة ضد التفوق الأبيض العالمي([9])؛ فإن بادمور أقام في لندن في عقدي الثلاثينيات والأربعينيات، وشارك ضمن "القوات البريطانية" المتمركزة في فلسطين، وكان من أبرز منظمي مؤتمر الشعوب الأفريقية All-African Peoples (أكرا- ديسمبر 1958) بالتنسيق مع عدد من المسؤولين البريطانيين والأميركيين.
انخرطت إسرائيل منذ قيامها في صراعات ممتدة، ورأت نفسها باستمرار تواجه تهديدات وجودية
وعلى الرغم من قناعة بادمور بحركة الوحدة الأفريقية وجوهريتها للبقاء السياسي والاقتصادي لغانا، فإن بعض النخب السياسية داخلها اعتبروها مسألة خارجية، الأمر الذي رفضه بادمور، وإن لاحظ باحثون كثر غياب رؤية دقيقة لبادمور، الذي كلف بوضع مقررات مؤتمر الشعوب الأفريقية، على الرغم مما عرف عنه من مواقف متحفظة على الدور العربي في حركة الوحدة الأفريقية (حتى في قلب القاهرة خلال زيارة رسمية لرئيس الوزراء كوامي نكروما 1958)، عن "محتوى" أيديولوجية الوحدة الأفريقية في سياق الحرب الباردة، مقابل حضور أصواتٍ أكثر واقعية وفهمًا للحالة الاستعمارية (ستبثث صحتها بعد سنوات مقابل تهافت أفكار كل من بادمور ونكروما على وجه الخصوص)، حتى في ذلك الوقت المبكر، مثل فرانز فانون وباتريس لومومبا وكينيث كاوندا ويوليوس نيريرس وتوم مبويا وفليكس مومي، واقتربت أفكار بادمور الفضفاضة من أفكار كوامي نكروما التي هيمنت بدورها على أيديولوجية الوحدة الأفريقية خلال عقد لاحق على المؤتمر. وكان ملفتًا سفر بادمور، المتحفظ على حركة الوحدة العربية، في يناير/ كانون الثاني 1959، إلى "إسرائيل" في جولة مهمة حظي خلالها ببرنامج ومناقشات مكثفة للغاية، حسب السفارة البريطانية في تل أبيب التي جدولت الزيارة، شمل "مناقشات موسّعة مع الاتحاد العام للعمال بإسرائيل" (الهستدروت)، وزيارات متعدّدة للمستوطنات والقرى "اليهودية" لدراسة مشروعات الإسكان والصرف فيها. وتوجه بعد زيارة إسرائيل إلى نيجيريا (فبراير/ شباط 1959) رفقة نكروما ثم إلى غينيا كوناكري في أبريل/ نيسان([10]) ربما لتداول انطباعاته في "إسرائيل".
وهكذا لم تستطع أفكار ماركوس جارفي وجورج بادمور الوصول إلى رؤية شاملة وموضوعية للمسألة الفلسطينية، على الرغم من اقترابهما الشخصي من أبعادها، سواء على ساحة القتال أم دبلوماسيًا وسياسيًا، وأبديا تحيزًا "عضويًا" لفكرة إسرائيل و"نضالها" التاريخي، وأكّدا على التطابق بين تطلعات الأفارقة واليهود.
وليام ديبوا وفلسطين
يعد المفكر الأميركي الغاني الأصل، وليام ديبوا William Edward Burghardt Du Bois (1868-1963)، بلا جدال، المفكر الأفريقي الأبرز في القرن العشرين، يرفده في ذلك تاريخ حافل بالإسهامات الفكرية المهمة والمؤثرة في مسار شخصيات الوحدة الأفريقية وأفكارها، وسياسات الدول الأفريقية سواء قبل الاستعمار أم عقب الاستقلال. وتتمثل أهمية رؤية ديبوا إلى الوجود اليهودي في فلسطين وتطورها لاحقًا إلى رؤية واضحة وموضوعية للمسألة بشكل ملفت بعد حرب السويس 1956.
واصل ديبوا تبنّي رؤية النخبة الأفريقية المتعاطفة مع "الوجود اليهودي" في فلسطين، وتبنّيها في بعض المراحل تمثيلات المشروع "الصهيوني" (كما في حالة إدوارد بلايدن). وعلى سبيل المثال، فقد أقرّ ديبوا في العام 1946 بوجوب تقديم السود في الولايات المتحدة عريضة petition للأمم المتحدة لضمان شمولهم بمبادئ حقوق الإنسان الدولية، أسوة "بالهنود في جنوب أفريقيا، ويهود فلسطين، والإندونيسيين وغيرهم ممن قدّموا عرائض مماثلة"([11]). وتكرر الأمر في مطلع 1948 (قبل قيام الكيان الصهيوني بشهور قليلة) باحتجاجه على عدم مناقشة الأمم المتحدة قضية السود في الولايات المتحدة بينما تواصل مناقشة (قضايا) "إسرائيل والنمسا وفنلندا ودول أخرى"، لكن جهوده في هذا المسار شهدت تراجعًا كبيرًا بعد إعلان الرئيس الأميركي حينذاك فرانكلين روزفلت (فبراير/ شباط 1948) قلقه من اليسار الأميركي وهجمات الاتحاد السوفيتي على بلاده في اجتماعات جنيف التي تناقش مسائل حقوق الإنسان. كما انتقد ديبوا، في مذكرة تداولها مكتب "الجمعية الوطنية لتقدم الشعوب الملونة" NAACP ودفعها ديبوا إلى الصحافة لنشرها في سبتمبر/ أيلول 1948، رفض الحكومة الأميركية تداول مسألة الحقوق المدنية للسود أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ووقوف الولايات المتحدة في مجلس الوصاية Trusteeship Council في صف القوى الإمبريالية "مع إيطاليا في استحواذها كامل إريتريا باستثناء جزء غير هام؛ ومعارضتها مصالح الهند "القوة الوحيدة التي دافعت عن مصالح أفريقيا لدى الجمعية (العامة)؛ ولم تدافع عن إندونيسيا، بينما تأرجح موقفها إزاء إسرائيل"([12]) (معتبرًا أن واشنطن كان عليها الدعم التام والمطلق لمطالب الحركة الصهيونية قبيل تكوين دولة إسرائيل، وتجاهل بشكل واضح سياقات الهيمنة الصهيونية على الأراضي الفلسطينية).
مثل انتصار مصر في حرب السويس (ديسمبر/ كانون الأول 1965) انتصارًا دبلوماسيًا أفريقيًا كبيرًا، تردّدت أصداؤه وسط دوائر وشخصيات سياسية ونخبوية أفريقية
وفي المقابل، كانت "إسرائيل" حاضرة في قلب الأنشطة السياسية لديبوا، كما يتضح في انخراطه في 1950 في حركة "سلام دولية" عرفت لاحقًا بشعار Ban the Bomob بدأت إرهاصاتها في مارس/ آذار 1950 عندما منعت الولايات المتحدة شخصيات بارزة مثل الفنان بابلو بيكاسو والمحترم هوليت جونسون عميد كانتربري وآخرين من دخول أراضيها، في خطوة وصفها ديبوا بالمأساوية، وسعى إلى تيسير دخولهم عبر World Congress of Partisans for World Peace (ساهم في تكوينه) من دون جدوى. وبعد الحادثة بأسبوع، ترأس ديبوا اجتماعًا Provisional Committee of Americans for World Peace ضم 37 شخصية أميركية بارزة (وفاق اجتماعًا مماثلًا عقد في باريس في الوقت نفسه)، وتقرر عقبه تكوين "مركز معلومات السلام" PIC برئاسة ديبوا، لتقديم دعم إعلامي وحملات منع اندلاع حرب عالمية جديدة (في ظل تفاعلات "الحرب الباردة")، ورعا المركز فعاليات احتفالية عديدة ضمت دعاية مبتكرة شاركت فيها إسرائيل بوفد تحت لافتة "إسرائيل ترحب بعريضة السلام العالمي" Israel Welcomes the World Peace Appeal (وضم الوفد عددًا كبيرًا من الموقعين على العريضة ضمت نائب رئيس الكنيست و22 نائبًا يمثلون أربعة أحزاب يهودية والقائد السابق للهاغاناه)([13]).
حرب السويس والوعي الأفريقي بقضية فلسطين
مثل انتصار مصر في حرب السويس (ديسمبر/ كانون الأول 1965) انتصارًا دبلوماسيًا أفريقيًا كبيرًا، تردّدت أصداؤه وسط دوائر وشخصيات سياسية ونخبوية أفريقية، من بينها المفكر الكبير ديبوا الذي بادر على الفور بكتابة قصيدة "السويس" الشهيرة التي مجّدت الانتصار المصري بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر، غير أن أهميتها تمثلت في أنها بداية تغيير مسار كبير لرؤية أكبر مفكر أفريقي في القرن العسرين للمسألة الفلسطينية وحقيقة الاستعمار الصهيوني للأراضي الفلسطينية. كما تواكبت حرب السويس مع تداعٍ متصاعد في هيمنة القوى الاستعمارية التقليدية على القارّة الأفريقية وبدء ما يمكن وصفه بصدمة معرفية "ثورية"، حجّمت بشكل كبير أيديولوجيات "التيار الفكري المعتدل" لصالح قيادات أكثر شبابًا وانفتاحًا على المسألة الفلسطينية وتجربة الشعب الفلسطيني في مواجهة قوة استعمارية، وصولًا إلى دعم أفريقي حاشد لقرار الأمم المتحدة (3379 في 1975، وحظي بتأييد أصوات نحو 30 دولة أفريقية) مساواة عقيدتها التي قامت عليها حرفيًا بالعنصرية، وصولًا إلى تصريح الزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا الشهير إن استقلال أفريقيا يظل ناقصًا مع استمرار احتلال فلسطين.
المراجع:
[1] Tudor Parfitt, Black Jews in Africa and the Americas, Harvard University Press, Cambridge, 2013, pp. 66-7.
[2] Ibid, pp. 68-9
[3] Ibid. p. 69.
[4] لتفصيل ذلك انظر: محمد عبدالكريم أحمد: قراءة في فكر النخبة الأفريقية في القرن 19، قراءات أفريقية، الرياض، 2020.
[5] Hollis R. Lynch, Edward Wilmot Blyden: Pan-Negro Patriot, 1832-1912, Oxford University Press, Oxford, pp. 63-4.
[6] Hakim Adi and Marika Sherwood, Pan-African History Political figures from Africa and the Diaspora since 1787,Taylor & Francis, London, 2003, p. 62.
[7] Hakim Adi and Marika Sherwood, Pan-African History Political figures, Op. Cit. p. 62-3.
[8] Yotam Gidron, Israel in Africa: Security, Migration, Interstate Politics, Zed Books Ltd, London, 2020, p. 6.
[9] Russell Rickford, African Americans, Palestine, and Solidarity, Black Perspectives, July, 2018 https://www.aaihs.org/african-americans-palestine-and-solidarity/
[10] Leslie James, George Padmore and Decolonization from Below Pan-Africanism, the Cold War, and the End of Empire, Palgrave Macmillan, New York, 2015, pp. 180-2.
[11] Gerald Horne, Black & Red W.E. B. Du Bois and the Afro-American Response to the Cold War 1944-1963, State University of New York, 1986, pp. 62-3.
[12] Ibid. pp. 101-103
[13] Gerald Horne, Black & Red W.E. B. Du Bois and the Afro-American Response to the Cold War 1944-1963, Op. Cit.pp. 123-7