في فصل الكوميديا عن الدين
لا توجد حضارة في تاريخ البشر لا تحتوي على نوع من الدين. تبدأ الأديان، خارج تفسيرات الدين وتنبؤاته، من بداية الإنسان نفسه. لا يمكن تحديد هذه البداية، فعلماء الآثار يُرجعْون فكرة الدين إلى العصور الحجرية القديمة قبل ثلاثين ألف سنة من عصر ما بعد الحداثة، فالدين لم يمثل فقط رقي الحضارات ولا مؤشّراً لتطورها، بل عدّهُ بعضهم مُعبراً عما في داخل الإنسان، ومتصل بطبيعته، فليس هناك أي كائنٍ آخر غير البشر تؤمن بالأديان والآلهة. وكذلك الأمر بالنسبة لبداية الكوميديا، لا نستطيع أن نحدّد أصلها في زمن معين، ربما لأنها آتيةٌ من طبيعة البشر أيضاً، فإنها دائماً وجدت مع بداية ظهور الإنسان. والكوميديا ما هي سوى الخروج أو إخراج الآخرين عن العادة المعروفة داخل مجتمع ما، وتظهر في عدة أوجه، كالهجاء والدعابة والتقليد الساخر، وتعطينا متعة حقيقية، تظهر واضحة في ملامح وجوهنا من الضحك والتبسم لا يمكن إنكارها. وقد ترفع من مستوى الاجتماعي للشخص المُضحك والمُداعب، ليصل إلى مستوى القيادة في نفوس الناس الضاحكين، الأمر الذي يعطيه مكانة فريدة داخل المجتمع، ليطرد من يشاء أو ما يشاء خارج السرب.
نرى مثلاً أن المتهاجي يريد إظهار عيوب المهجو، لإخراجه خارج عادات الجمهور وتقاليده، وبذلك يفقد المهجو مستواه الاجتماعي داخل ذلك المجتمع المتمسّك بقيم ومعايير معينة لم يستطع المهجو التمسّك بها. يحاول الكوميدي لفت أنظار الجمهور إلى المختلف والغريب في الشخصية الضاحكة عليها، مختلف إما عما تعود عليه المجتمع أو مختلف عن طبيعة البشر نفسه، وذلك لمحاولة إقصائه (عمداً أو من دون عمد) من عادات المجتمع وتقاليده أو من طبيعة البشر. ولا يطبق ذلك فقط على الشخصيات، يمكن طرد الأفكار والأشياء الجامدة كذلك من دائرة المجتمع. بل ويمكن حتى طرد بعض العادات والتقاليد نفسها خارج طبيعة المجتمع، عندما تتعارض العادة مع الطبيعة البشرية، أو عندما يوجد بديل آخر يستطيع استبدال ذلك التقليد، فجاء ربط الكوميديا بالدين عملية طبيعية ناعمة لا بد منها، ما هدّد بقاء الأديان الراسخة داخل مجتمعات البشرية. وقد ازدادت حبال الرابطة بين الكوميديا والدين، عندما أصبح الدين جزءاً من السياسة في الحضارات الإغريقية والفارسية والهندية - الصينية. قابل ذلك رد فعل قوي من رجال الدين والمتدينين، تمثل بالاغتيالات والاغترابات وتكفير كل من أراد أن يلطف الأجواء بنكتٍ دينية.
جاء ربط الكوميديا بالدين عملية طبيعية ناعمة لا بد منها، ما هدّد بقاء الأديان الراسخة داخل مجتمعات البشرية
تتغاضى هذه المقالة عن السخريات التي تعرّض لها الأنبياء والمرسلون من سادات مجتمعهم. وقد بدأ الهجاء الديني في الغرب مع أول ظهور للمذهب الإنساني في بدايات عصر النهضة في القرن الرابع عشر الذي بدّلَ، وما زال يُبدل، الحكم الديني في السياسة حول العالم. وقد عارضت الإنسانية التي رأت الإنسان إنساناً له حقوقه عند الإنسان الآخر، بغض النظر عن دينه، عارضت الأديان التي كانت تشن حروباً باسم الدين ضد الآخرين (حروب الطائفية بين البروتستانت والكاثوليك مثلاً). أشخاص مثل جوناثن سويفت وروايته "حكاية الحوض"، وايراسموس ومقالته الساخرة "في مدح الحماقة"، وكُتاب وشعراء ساهموا في تنوير طريق الكوميديا نحو الدين، لإخراج الدين عن السياسة تارةً، ولتقليل تأثيره في نفوس الجماهير تارةً أخرى، وبالتالي نشر مبدأ الإنسانية على حساب الدين. أما في الشرق، وبالتحديد في المجتمعات الإسلامية، فهناك قليل من النكت والطرائف تحوم حول الشخصيات الدينية، بدلاً من انتقاد الإسلام نفسه. مع وجود مجاميع أخرى تستخدم الاستهزاء لتكفير الطوائف والمذاهب الإسلامية المختلفة عن مذهبها وطائفتها، وتبرز هذه بشكل واضح بين طائفتي السنة والشيعة اللتين طالما كانتا في عداء تاريخي ملحمي بعضهما مع بعض.
بدأ الهجاء الديني في الغرب مع أول ظهور للمذهب الإنساني في بدايات عصر النهضة في القرن الرابع عشر الذي بدّلَ، وما زال يُبدل، الحكم الديني في السياسة حول العالم
وكوني عراقياً أعيش في وسط شعب متفرّق المذاهب والأديان، وفي دولةٍ عانت الكثير بسبب الصراعات السنية - الشيعية، أشاهد برامج ومسلسلات تلفزيونية تسخر من السلفية وبعض آراء السنة في قنوات، وأخرى تسخر من الشيعة وآرائهم في قنوات غيرها. وقد يبدو أحياناً أن الاستهزاء يتجاوز المجموعة المستهزأ عليها، لتصل إلى التعاليم الإسلامية بشكل عام. إعفاء اللحية وحلق الشارب مثال صريح يُستهزأ منه، كما أيضاً ملامح رجل دين متشدد، وكذلك مثال السخرية من الحياة الآخرة والحور العين.
تبدو مسألة فصل الكوميديا عن الدين كمسألة فصل الغذاء عن الشراب. يحتاج الإنسان إلى الاثنين للعيش، وهما من طبيعة البشر ووراثته، فلا نستطيع الاستغناء عن أيٍّ منهما، وكلاهما يدخل في مجال الآخر. هذا يعني أنه لا يمكن كتم الكوميديين عن التطرّق بمسائل الدين، لكون الدين جزءاً من المجتمع، ولكون الكوميديا تعيش في داخل المجتمع. إذاً، لا بد لهما أن يجدا طريقةً للعيش بانسجام وتناغم بعضهما مع بعض. وكما أشير أعلاه، في البداية، فإن الكوميديا تخرج أي شيء تلمسه خارج دائرة المجتمع والطبيعة، مثلاً، السخرية من مربّي اللحية من أجل الدين تُخرجهم، ومن أراد اتباعهم، من المتعارف عليه، ومن العادة الاجتماعية، فيصبحون مستثنين ومشردين غير مُنتمين إلى المجموعة، ومختلفين عن ملامح الرجال في ذاك المجتمع. بمعنى آخر، ينطردون من وعي المجتمع، بعد الاستهزاء بهم، ويتحوّلون إلى أشخاص قليلي المنزلة وغريبين.
وهناك حاجز ذاتي عند الكوميديين والناس في المجتمعات الإسلامية، يمنعهم من السخرية والضحك في أمور الدين، فُهم يرون الاستهزاء بالدين كالاستهزاء بالفقراء أو اليتامى، أمرٌ مؤذٍ أكثر مما هو مضحك، إلا أن إعلاميين وكُتابا يسخرون مِمّن يستعملون الدين أداة للوصول إلى مرادهم الدنيوي والمادي. هناك تهجّم ساخر شائع (وله قبول جماهيري واسع) على الذين يستغلون مشاعر الناس وإيمانهم لأغراضٍ شخصيةٍ في الدول العربية والغربية، ولكن يقفون عند حدّهم، ويمتنعون عن السخرية من دينهم وآرائهم المرتبطة بالدين، ما يفتح الباب لهؤلاء الدجالين أن يتغطوا بغطاء ديني آخر، لمنع المُسيئين والمستهزئين من الوصول إليهم، وقد يهاجمون الأشخاص الذين انتقدوهم بأنهم يحاربون الدين، بدلاً من شخصيات أولئك ومطامعهم.
هنالك حاجز ذاتي عند الكوميديين والناس في المجتمعات الإسلامية، يمنعهم من السخرية والضحك في أمور الدين
لعل من شأن وضع حدود أو خطوط حمراء لا يمكن للكوميديين أن يتجاوزوها أن يجعل تعايش الدين بجانب الكوميديا ممكناً. ولكن من الذي من رجال الدين يمكنه أن يتمتّع بتلك الخاصية؟ كبار العلماء والأئمة القدماء؟ كبار العلماء والأئمة المعاصرون؟ الأنبياء والمرسلون فقط؟ أو يمكننا أن نجعل مبادئ الدين وإرشاداته غير قابلة للسخرية فقط؟ ولكن أي من الأديان علينا التوقف عند حدها؟ الدين الإسلامي فقط؟ أم يدخل في ذلك الأديان الأخرى؟
يبدو أن الأديان الأخرى المختلفة عن دين مجتمع المستهزئ هي أكثر عُرضةً للاستهزاء والسخرية من الدين الشائع في ذلك المجتمع. مثلاً، الدين البوذي أكثر عرضةً للسخرية في مجتمع عربي إسلامي، ولا يبدو أن هناك حاجزاً يمنع تلك السخرية في مجتمعنا، وكذلك العكس الصحيح في مجتمع بوذي. ولكن الطائفتين، السنية والشيعية، تستهزءان بعضهما ببعض داخل مجتمعهما الخاص. كل شيء مختلف ومميز داخل المجتمع هو معرّض للسخرية، وأديانٌ عديدةٌ قد تبدو غريبة لمجتمع ملتزم بدين واحد، لذلك تكون السخرية من جميعها، عدا ذلك الدين، أمراً مقبولاً (بل ومضحكاً) داخل ذلك المجتمع.
أما وأن الدين نظام فكري عميق ومعقد، فذلك يرتب المجتمع على نحو معين، ويغير معالم الحضارات ببنايات العبادة (كالمساجد) ويملأها ببيانات التعظيم والتمجيد (كتماثيل آلهة الإغريق)، وبنايات التقرّب والهداية، ويعطي لأهل الحضارة أعياداً وأياماً للتقرّب الديني، ويغير من روتين الفرد ويرسم له هدفاً ومعنى في الحياة. إذاً، لا نستطيع أن نسخر ببساطة منه، ولا أن نفترض أن يتقبل الشخص المتدين هذه السخرية، فضلاً عن المجتمعات المتدينة، فالسخرية من دين شخصٍ ما هي السخرية من حياته الشخصية، من أهدافه، من ارتباطاته مع الآخرين، من قدرات عقله المؤمن، من روتينه اليومي والشهري والسنوي، من لغته حتى أحياناً (بعض اللغات تقدمت مع تقدم الأديان، كاللغة العربية)، مما يفعله ويقوله، مما يحبه ويكرهه.
يبدو أن الأديان الأخرى المختلفة عن دين مجتمع المستهزئ أكثر عُرضةً للاستهزاء والسخرية من الدين الشائع في ذلك المجتمع
الدين هو فلسفة الإنسان المؤمن في الحياة، فهو الشريك الصادق مع روحه، فإذا أقبلَ على السخرية من دينه، فإنه يجعل نفسه مغترباً عن نفسه. لن نستطيع أن نتّبع فكرةً ما ونلتزم بها ونضحك عليها في الوقت نفسه، فبذلك نحن نعترف بوجود خطأ في هذه الفكرة التي تتحوّل إلى فكرة غير مقبولة داخل دائرة مجتمعنا بعد الاستهزاء بها.
هذه هي قوة الكوميديا قادرة على تحويل الطبيعي إلى غير طبيعي، والمتعارَف عليه إلى متحور منه، والمتعمّق به إلى سطحي، فالدين ليس هكذا في المجتمع، هو طبيعيٌّ وعميقٌ وعادةٌ متعارف عليها. فهل تقدر أن تضحك على نكتةٍ عن مجموعة من الناس يأكلون الطعام بالملاعق؟ بالتأكيد لا، فما المضحك في أكل الإنسان بالملعقة، فهذه عادة متعارفة وطبيعية ولها تاريخ عريق.
بداية الأديان (والمذاهب المنشقة عنها) قوبلت بالسخرية والاستهزاء، لأنها جاءت بأشياء جديدة ومختلفة عن العادة المتبعة، فتعرّض الأنبياء والفلاسفة والأئمة الذين أتوا بتلك الأديان والمذاهب إلى كم هائل من السخرية من مجتمع لا يمتلك معلومات سابقة عما كان هؤلاء يدعونهم إليه. وليست فقط الأشياء الجديدة والخارجة عن المتعارف عليها مُعرضة للاستهزاء، بل القديمة أيضاً، فالأجيال التي لم تتعوّد على دين مجتمعها أكثر تقبلاً له، فهُم عادة يحاولون التميز عن آبائهم وأجدادهم، والسخرية هي الاستراتيجية التي يمكن اتخاذها للهروب من قيد العادات والتقاليد.
هل أستطيع أن أضمن لك أن الناس لن يضحكوا علينا بعد مائة سنة على أكلنا للطعام بالملاعق؟ كلا، فلعل المجتمع قد أوجد تقنية أخرى أكثر أُلفةً وأكثر استخداماً وأكفأ من أداة الملعقة، عندها تصبح السخرية من محبي الملاعق مقبولة داخل مجتمع ترك هذه العادة وغير مرتبط بها. ويبقى الأمر، في الأخير، بيد الشعوب والجماهير المتدينة في هذا العصر، أن تقرر ما يمكن الاستهزاء به، وما لا يمكن الضحك عليه.