في مآلات اتفاق السلام الإثيوبي
وقّعت الحكومة الفيدرالية الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، في الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي في العاصمة الكينية نيروبي، اتفاقاً يحدّد خريطة الطريق لتنفيذ اتفاقية السلام التي توصل إليها الجانبان في الثاني من الشهر نفسه في جنوب أفريقيا. واتفق الطرفان على وقف الأعمال العدائية ونزع سلاح جبهة تيغراي وعودة سلطة الحكومة الاتحادية إلى إقليم تيغراي، والسماح بإيصال المساعدات إلى الإقليم. ووقّع الهدنة من جبهة التحرير الشعبية لتحرير تيغراي، غيتاشيو رضا، ومستشار الأمن القومي للحكومة الفيدرالية الإثيوبية، رضوان حسين، برعاية الاتحاد الأفريقي. ووافق تاريخ توقيع الاتفاقية الذكرى الثانية لاندلاع الحرب في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020.
ونصت الاتفاقية، بحسب "وثيقة نهائية" نشرت بعض تفاصيلها، وأكّدها مسؤولان مشاركان في محادثات السلام، على نزع سلاح قوات تيغراي، بدءاً بـ "الأسلحة الخفيفة"، في غضون 30 يوماً من التوقيع، أما الأسلحة الثقيلة، وهي الأولوية، فسيجتمع قياديون عسكريون كبار من كلا الطرفين، خلال خمسة أيام من توقيع الاتفاق، لبحث شأنها. وستتولى قوات الأمن الفيدرالية الإثيوبية السيطرة الكاملة على "جميع المرافق والمنشآت الفيدرالية والبنية التحتية الرئيسية، مثل المطارات والطرق السريعة داخل إقليم تيغراي، على أن تُنشأ "إدارة إقليمية انتقالية بعد الحوار بين الطرفين".
يمكن النظر إلى اتفاقية السلام على أنها عملية استسلام من الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، التي تكبّدت خسائر فادحة
يعدّ هذا تطورا لافتًا ومهما في اتجاه وقف الحرب التي كادت تطيح الدولة الإثيوبية في العامين الماضيين، إلا أن عدة عقبات تعترض تنفيذ الاتفاق، أبرزها مسألة وضع القوات الإريترية في تيغراي، والتي لم يتطرّق لها نص الاتفاقية، على الرغم من دورها المحوري في الصراع. ومع أن الاتفاقية تنصّ على أن الجيش الإثيوبي سينتشر على طول حدود البلاد، إلا أنه لا يحدّد ما إذا كانوا سيضمنون انسحاب إريتريا. وبالطبع، لا يمكن ان تحقّق أي عملية سلام مستدامة ما دامت القوات الإريترية لا تزال على أراضي الإقليم. و من غير الواضح أيضًا كيفية تنفيذ الاتفاق، كما يثير الجدول الزمني السريع، ومدته 30 يومًا، لنزع السلاح الشامل وتسريح مقاتلي تيغراي الشكوك حول تنفيذه. وقد مرت هذه المدة من دون أن ينفذ هذا البند. علاوة على أن الاتفاق لا يحدد القوة التي ستحلّ محلها لتوفير ضمانات أمنية للسكان المدنيين في تيغراي، الذين عانوا من انتهاكات واسعة على أيدي القوات الإثيوبية والإريترية. وينصّ الاتفاق أيضًا على أن الحكومة الإثيوبية ستضمن "المساءلة والتأكّد من الحقيقة وإنصاف الضحايا". وفي النهاية، تظل كيفية تحقيق هذه المساءلة مبهمة.
وبوجه عام، يمكن النظر إلى الاتفاقية على أنها عملية استسلام من الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، التي تكبّدت خسائر فادحة، حسب ما أفاده رئيس وفد جبهة تحرير تيغراي، غيتاتشو رضا، نفسه، قائلا إنه "من أجل معالجة مصاعب شعبنا، قدذمنا تنازلات مؤلمة لأننا نريد بناء الثقة". وعلى الرغم من أن الاتفاق ينصّ على أن الحكومة الإثيوبية ستضمن "المساءلة والتأكد من الحقيقة وإنصاف الضحايا"، ولكن في النهاية فإن كيفية تحقيق هذه المساءلة مبهمة. وقد تعصف هذه المشكلة بأي حلٍّ للأزمة السياسية في إثيوبيا. وتتعلق بمدى إمكانية محاكمة جنرالات الحكومة الفيدرالية وأعضائها على ما ارتكبوه بحقّ الإقليم من انتهاكات، أو العفو المشروط عنهم ضمن تسويةٍ شاملةٍ يتبادل فيها الطرفان تنازلاتٍ قد يكون بعضها مؤلمًا.
حوالي 5.2 ملايين شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية في تيغراي، بما في ذلك 3.8 ملايين في حاجة ماسّة للرعاية الصحية
وتتوقف ديمومة الاتفاقية التي تملك نسبا متساوية للنجاح والإخفاق على عدة أمور: في مقدمتها سرعة معالجة الوضع الإنساني: لم تفِ الحكومة الاتحادية بالتزامها بالوصول الفوري وغير المقيد للمساعدات الإنسانية، وسمحت بإيصال المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرتها فقط، وفسّرت بذلك على أن الاتفاقية تعنى أن الإمدادات الإنسانية متوقفة على استئناف الحكومة الاتحادية سلطتها في تيغراي. ويمرّ الإقليم في حالة انعدام أمن غذائي شديدة، وقد أصدرت الأمم المتحدة تحذيراتٍ متكرّرة بشأن عمليات حظر فعلية للمساعدات الإنسانية، وحظر تقديم الغذاء والمساعدات الضرورية إلى تيغراي. ورفضت الحكومة الإثيوبية مرارا مزاعم إنها تمنع وصول المساعدات. ولكن بعد أيام من تحذير منسق الإغاثة في الأمم المتحدة من أن تيغراي تواجه مجاعة "من صنع الإنسان"، طردت إثيوبيا سبعة من كبار مسؤولي الأمم المتحدة من البلاد، بما في ذلك المنظمات التي تنسق جهود الإغاثة. ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، يوجد حاليًا حوالي 5.2 ملايين شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية في تيغراي، بمن في ذلك 3.8 ملايين في حاجة ماسّة للرعاية الصحية. واستمرار تأجيل معالجة الوضع الإنساني في الإقليم يخرق أهم بند في الاتفاقية في نظر الجبهة، ولا يستبعد أنه سيُنسف بالاتفاقية بالكامل.
ويعدّ إخراج القوات الإريترية حاسما في إنجاح الاتفاقية. ويعتقد مراقبون عديدون أن السبب الجذري للحرب ميثاق أسمرة لعام 2018 بين الرئيس الإريتري أسياس أفورقي ورئيس الوزراء أبي أحمد، والذي لم يكشف عن تفاصيله. وعلى جميع الأطراف المهتمة بإنجاح اتفاق السلام إدراك الدور السلبي الذي لعبه الرئيس الإريتري، أفورقي (وهو عدو طويل الأمد للجبهة الشعبية لتحرير تيغراي في الماضي في القرن الأفريقي) والمخاطر التي قد تترتب من استمرار وجود قواته في داخل إقليم تيغراي.
بدا المجتمع الدولي أقلّ حماسًا في الاستجابة للأزمات السياسية والإنسانية في تيغراي
وتتمثل النقطة الثالثة لانجاح اتفاقية السلام بدور الاتحاد الأفريقي والشركاء الدوليين الآخرين، وتمثل الاتفاقية تراجعًا ملحوظًا عن المعايير والمبادئ الهيكلية للسلام والأمن في الاتحاد الأفريقي من القانون التأسيسي لعام 2000 إلى مبادرة "إسكات البنادق"، وهي عودة إلى النموذج المجرّد لاتفاقات السلام من عصر منظمة الوحدة الأفريقية والقادة الإقليميين. ولإنجاح الاتفاقية، ستكون هناك حاجة إلى لعب الاتحاد الأفريقي دورًا محوريًا وتفعيل آلياته في المتابعة والمراقبة لعملية تنفيذ الاتفاقية.
وبشكل عام، بدا المجتمع الدولي أقلّ حماسًا في الاستجابة للأزمات السياسية والإنسانية في تيغراي. وتوفر اتفاقية بريتوريا دورًا رسميًا، وإن كان ضئيلًا، للأمم المتحدة والشركاء الدوليين الآخرين للعب دور في إنجاح الاتفاقية. خصوصا أنهم سيدفعون 20 مليار دولار لإعادة إعمار إقليم تيغراي، ما سيمحنهم ورقة ضغط على الحكومة الاتحادية.
في المجمل، ثمّة ظروف داخلية وخارجية أجبرت الطرفين على القبول بالجلوس إلى طاولة المفاوضات وعقد تسوية معينة، بعد تعنت دام عامين من أطراف الصراع، خصوصا أن الوضع الاقتصادي والإنساني والعسكري الصعب التي واجهته جبهة تحرير شعب تيغراي يبدو أنه ما دفعها إلى هذا الخيار الذي وصفته بـ"المؤلم". أما حكومة أبي أحمد فعلاوة على المشكلات الاقتصادية المتفاقمة، فإنها تواجه اضطراباتٍ في أجزاء أخرى من البلاد، من بينها موجة الهجمات القتالية العرقية التي هزّت مناطق أوروميا والإقليم الصومالي في الأشهر الأخيرة، ما زاد من زعزعة الاستقرار في إثيوبيا، وهو ما حدا بإدارته إلى تسريع عقد تسوية مع جبهة تحرير شعب تيغراي. وعلى الرغم من المحاذير القائمة، فإن دعائم عملية السلام على أرض الواقع قوية، فكل من جبهة تحرير تيغراي والحكومة الاتحادية غير قادرتين على تحمّل العودة إلى الحرب في الوقت الراهن، قد ينهار كلاهما إذا لم يجر البناء على اتفاقية بريتوريا لضمان فتح أفق سياسي جديد للبلاد.