في مأزق العرب بعد الردّ الإيراني
لم يكن ردّ إيران العسكري على استهداف قنصليتها في دمشق، مساء أول من أمس السبت حتى صباح أمس، مُتوقّعاً حتى لدى دوائر صناعة القرار الأميركية، ولم يكن متوقّعاً من حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والظاهر أنّ هذه الأطراف، وجميع التقديرات التي تناولت شكل الردّ الإيراني المحتمل، وقعت في فخّ التنميط، إذ غالباً ما كان صوت الإعلام الإيراني أعلى من صوت قذائفها في ردّها على الضربات الإسرائيلية. ولطالما جرى التشكيك في فعالية الأسلحة الإيرانية، خاصّة الصواريخ البالستية، من ناحيّة دقّتها وحمولتها المتفجّرة، إلى درجة أنّ هناك من كان يعتقد أنّ ما تبثّه إيران من صور وفيديوهات لمناورات عسكرية وعمليات إطلاق صواريخ، فبركات وعمليات مونتاج أكثر منها حقيقة. لكن ثَبَتَ أنّ إيران قادرة فعلاً على تغطية أراضي فلسطين المحتلة كلها بصواريخها وطائراتها المسيّرة، التي عجزت القواعد الأميركية في العراق والأردن وسورية عن اعتراضها، فضلاً عن القبّة الحديدية الإسرائيلية. وبحسب المصادر المفتوحة، فإنّ صواريخ إيرانية عديدة استطاعت الوصول إلى أهدافها وتحقيق إصابات مباشرة. لم يتأكد بعد التقييم النهائي للرد الإيراني، ومعرفة مدى فعاليته، لكن لا بدّ من إدراك أنّ ما استخدمته إيران ليس طاقتها وقدراتها كاملة، وهي فعلت ذلك بهدف إعادة التوازن لمعادلة الردع التي خلخلتها إسرائيل بضربها القنصلية في دمشق، واستهدافها قيادات الحرس الثوري، مطلع إبريل/ نيسان الحالي في سورية، فكان الردّ الإيراني محدود الأهداف في إطار ما يسمّى "الردع مقابل الردع" أو بناء معادلةِ ردعٍ جديدة.
مهما كان الردّ الإسرائيلي، بشكله وأنماطه وطبيعته، لن يكسر المعادلة التي رسمتها إيران، ولن يعدلّ الموازين التي لم تعد صالحة لقياس أوزان الفاعلين
ولكن إذا أردنا فهم العملية الإيرانية وتأثيرها الاستراتيجي، علينا إدراك أنّ طهران لم تستخدم كامل طاقتها، في ظل نقاط ضعف عديدة تنطوي عليها جغرافية الطرف الأخر؛ "إسرائيل"، حيث تتركّز الكتلة السكانية الكبيرة والصناعات الحيوية ضمن مساحة جغرافية صغيرة، ولا تستطيع إسرائيل منع إيران من استهدافها، خصوصاً في حال استخدام أعداد كبيرة من الصواريخ والطائرات المسيّرة. مهما كان الردّ الإسرائيلي، بشكله وأنماطه وطبيعته، فلن يكسر المعادلة التي رسمتها إيران، ولن يعدلّ الموازين التي لم تعد صالحة لقياس أوزان الفاعلين، ويبدو أنّ إسرائيل ستدخل بعد هذه الضربة في مأزقٍ نفسي، وفي حالة عدم ثقة بقدراتها، في ظل امتلاك إيران مزايا تقنية منافسة وميزاناً جغرافياً وبَشَريّاً يميل إلى مصلحتها بدرجة كبيرة، فضلاً عن شبكة الوكلاء التي أصبحت تحاصر إسرائيل من أكثر من جهة.
في المقلب الآخر، ضربات إيران لإسرائيل رسالة تحذير خطيرة للمنطقة بأكملها، خاصّة الجوار العربي، بعد أن تبين أنّ قوة إيران ليست محصورة بوكلائها في المنطقة، كما كان الاعتقاد سائداً، بل لديها أسلحتها المتطوّرة القادرة على تجاوز كل القواعد الأميركية المدججة بصواريخ الباتريوت وأحدث أجيال الطائرات القادرة على اعتراض المسيّرات والصواريخ، إلا إذا كانت واشنطن متواطئةً مع الإيرانيين لحساباتٍ لا نعرفها (!)
من المُرجّح توصّل واشنطن وطهران إلى تفاهمات أشمل، على غرار الاعتراف لإيران بحقّ السيطرة على مجالها الحيوي
قَرَعَ الردّ الإيراني، غير المسبوق وغير المتوقّع، جرس الإنذار في الشرق الأوسط كلّه، ولا بدّ أن ستتأسس عليه معادلات جديدة ومقاربات جديدة، والمؤكّد أنّ ردود الأفعال في المنطقة ستأخذ في الاعتبار هذا المتغيّر والتداعيات التي ستترتّب عليه، وما يستتبع ذلك من حساباتٍ أمنيةٍ وسياسيةٍ لدى الفاعلين الإقليميين والدوليين. والأكثر من ذلك، كيف ستنظر إيران إلى نفسها بعد الآن، وكيف سيتعامل وكلاؤها مع هذا التطور، وتأثير ذلك على سلوك إيران ووكلائها في المنطقة عموماً. ورغم ضجيج سفن الولايات المتّحدة وحاملات طائراتها في المنطقة، من غير المتوقع أن تُقدِمَ واشنطن على استهداف إيران في هذه الفترة، وستحاول التوصّل إلى تفاهماتٍ معها من دون الدخول في صراع، ليس بسبب الانتخابات الأميركية، كما تروّج تقديراتٌ وتحليلاتٌ كثيرة، ولكن بسبب عدم رغبة واشنطن في الانخراط بحربٍ في الشرق الأوسط، في وقتٍ تحاول فيه الضغط على الصين وهزيمة روسيا في مناطق تعتبرها أكثر أهمية وحيوية لمصالحها العالمية.
في ظلّ ذلك، من المُرجّح توصّل واشنطن وطهران إلى تفاهمات أشمل، على غرار الاعتراف لإيران بحقّ السيطرة على مجالها الحيوي، الذي يقع الجزء الأكبر منه في العالم العربي، وبهذا تكون إيران قد حقّقت هدفها الاستراتيجي منذ قيام الثورة الإيرانية، ورغم أنّ إيران تمارس بالفعل سيطرة مطلقة على مساحات مهمة من العالم العربي ولا تنتظر الاعتراف الأميركي بذلك، لكن سيعزّز الإقرار الأميركي أوراق قوّتها، ليس في المنطقة فحسب، ولكن بوصفها أيضاً، لاعباً مؤثراً في المستوى العالمي.
قبل الردّ، كانت إيران في مأزق. حتى حلفاؤها شكّكوا في قدراتها. بعد الردّ، وَضَعَتِ المنطقة كلّها في مأزق، فالقوة الإيرانية قوّة حقيقية، وذات فعّالية كبيرة، وأوّل المعنيين بهذا المأزق والمتضررين منه هم العرب الذين أصبحوا مُطالبين بالبحث عن مقاربات جديدة. مقاربات لا تكتفي بالدعم الأميركي فقط، وإنما تأخُذ في الاعتبار أيضاً الاعتماد على القوّة الذاتية لصناعة معادلة ردع، إنْ في مواجهة إيران أو في مواجهة إسرائيل التي استهترت بالعرب في استباحتها أهل غزّة.. فهل نفعل؟