في مسألة "خيمة 56"
مبدئيا، لم يعجبني، على المستوى الفني، فيلم "خيمة 56" (إخراج سيف شيخ نجيب وتأليف سندس برهوم، ومن بطولة نوارة يوسف وصفاء سلطان وعلاء الزعبي وشادي الصفدي وسارة طويل ووليام سيجري)، فالفيلم حين يكون روائيا قصيرا (20 دقيقة) يجب أن يكون بالغ التكثيف، وقادرا على إيصال الفكرة بأقل الحوارات الممكنة، معتمدا أكثر على الصورة السينمائية، أو هكذا هي ذائقتي، على الأقل، حين يتعلق الأمر بفيلم روائي قصير، أراه أقرب إلى الشعر، مختزلا ومكثفا ومليئا بالصور والمعاني، وهو ما لم يتحقق في "خيمة 56"، حيث اختار صنّاعه أن يكون فيلما كوميديا خفيفا مليئا بالحوارات. ولولا بعض المشاهد الخاصة بالأطفال لخلا الفيلم من الصورة السينمائية. ولا بد هنا من الإشارة أيضا إلى اللهجة غير المتقنة التي أرادها صنّاع الفيلم لهجة أهل سهل حوران، وبدت مفتعلة عند بعض الشخصيات.
ولكن هل يستحقّ الفيلم كل تلك الضجّة المثارة بشأنه بعد عرضه، أخيرا، على قناة يوتيوب (عرض للمرة الأولى قبل أربع سنوات في مهرجان الإسكندرية السينمائي وحصل على جائزة)؟ وهي، يا للمفارقة، الضجّة ذاتها التي ساهمت في انتشاره وارتفاع عدد مشاهداته إلى رقم لم يتوقعه صنّاع الفيلم أنفسهم.
يحكي الفيلم عن مجموعة من نساء المخيم (حورانيات) يشتكين من أن الخيم لا تتيح لهن خصوصية معاشرة أزواجهن كما يشأن ويحببن، فيقترحن تخصيص خيمة مستقلة (خيمة 56) ليستخدمها الأزواج والزوجات وقت المعاشرة، بعيدا عن أعين أطفالهم أو أعين المتلصصين، على أن تستخدم الخيمة دوريا، كل ليلة لزوجين. الفكرة طريفة وتصلح لفيلم قصير، وتعالج مشكلة مهمة لتحصيل حقّ من الحقوق البشرية التي لا يمكن تأجيلها، من دون أن يسيء لأحد، فلا النساء في المخيم يردن معاشرة غير أزواجهن، ولا الأزواج يريدون فعل هذا؛ ما هو الأمر المسبّب لكل هذه الضجة والاحتجاجات والبيانات والمطالبات بسحب الفيلم عن قناة يوتيوب، واضطرار بطل الفيلم علاء الزعبي (الحوراني) إلى الاعتذار علنا من عشيرته وناسه؟
يشكّل الجنس واحدا من محرمات ثلاثة رئيسية في الوعي الجمعي العربي (الدين والجنس والسياسة)، بحيث يصبح الحديث عنه أمرا معادلا للعيب مجتمعيا، ويستدعي تدخل الرقيب الرسمي، حينما يكون الجنس فكرة عمل أدبي أو فني إبداعي، وغالبا ما يتحالف المجتمع مع المؤسسة الرسمية لمنع أي عملٍ إبداعي، فيه إشارة واضحة إلى الجنس. والذريعة المستخدمة دائما هي "المساس بثوابت المجتمع وقيمه"، الذريعة التي تتجاهل أن التراث العربي والإسلامي المشكّل لوعي المجتمع يمتلئ بالحديث عن الجنس وطرقه وفنونه، وأن أحاديث الدعاة، قديمهم وحديثهم، يشكّل الجنس أكثر من ستين بالمئة منها. لكن كل هذا التراث وهذه الأحاديث يقدم المرأة أداة لمتعة الرجل، وما تقدمه عن فنون الجنس هو لزيادة متعة الرجل. أما المرأة فلا ينبغي لها أن تتمتع، هي مخلوقة كوعاء لتفريغ شهوات الرجل ومتعته. وقد جعل هذا النسق الذهني النساء يعبرن عن رغباتهن الجنسية سرّا، ويبدون وكأنهن لسن معنياتٍ بشأنٍ كهذا، ويُتعامل معهن من منطق أنهن خاليات من الشهوة، وهدا مخالف تماما لفطرة الكائنات الحية، ومخالف لغريزة البقاء التي يحتل الدافع الجنسي الجزء الأكبر منها.
هناك أمر آخر يجرى تجاهله: في الحروب والكوارث الكبرى يدافع الكائن البشري عن نفسه بالعيش أكثر، وكأن فرط الموت يؤجّج رغبة الحياة، والجنس هو الغريزة شبه الوحيدة المتاحة أمام البشر، خصوصا عندما تخلف الكوارث الفقر والجوع والحصار، وهو ما يجعل من المجتمعات الفقيرة الأكثر ازديادا في عدد المواليد، وهو ما يبرّر أيضا زيادة المواليد في المخيمات قديما وحاليا.
هل يعيب المرأة الحورانية الزوجة والأم أن تفكّر بالجنس؟ هل يعيب أية امرأة شيئ كهذا طالما الأمر يجري ضمن نواميس المجتمع وأعرافه؟ هل تستحق حكاية الفيلم كل هذا الهجوم والاستنفار، وكأنه قدّم نساء المخيم متهتكات وناشزات، وهو لم يفعل هذا مطلقا بكل حال. الفيلم قدّمهن نساء طبيعيات، وأمهات حنونات، وزوجات محبّات، يحتلن على العيش في ظروف معيشية بالغة السوء. أليس في المطالبة بمنع الفيلم وسحبه انحياز لفكرة قمع حرية الرأي، وانحياز للفكر الدي يستنفرّ مشاعر القبيلة لمساندته في حربه؟ أليس هذا مخالفا للمدنية، أحد شعارات الربيع العربي، ومخالفا لحرية التعبير التي كانت من أسمى مطالبات الثورات؟