في مواجهة التطرّف الفاشي الإسرائيلي
كما توقّعنا، أدّت إجراءات القمع الإسرائيلية، وارتكاب مجزرة وحشية في مخيم جنين راح ضحيتها عشرة شهداء، في 26 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني) إلى انفجار الوضع في فلسطين، واستنفار الدولة المجاورة، والولايات المتحدة، لإرسال مبعوثيها إلى المنطقة، ومنهم رئيس وكالة المخابرات المركزية، وليام بيرنز، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن. ولم يكن ذلك الانفجار سوى نموذج مصغّر لما يمكن أن تصل إليه الأوضاع في فلسطين، بسبب سياسة الحكومة الفاشية الإسرائيلية وإجراءاتها. وهي إجراءات لا تتوقف عن التصاعد، من تصعيد القمع والتضييق على الأسرى والأسيرات في سجون الاحتلال، إلى إطلاق يد المستعمرين المستوطنين بعد عملية القدس لشنّ اعتداءات على القرى الفلسطينية والمركبات في الشوارع، التي وصلت إلى 150 اعتداءً يومياً، بما في ذلك حرق بيوت، ومركبات، وإطلاق الرصاص على الفلسطينيين ورجم سياراتهم بالحجارة، إلى شنّ حملة واسعة من هدم بيوت الفلسطينيين في مدينة القدس والأحياء المحيطة بها، مثل جبل المكبّر، إلى إغلاق مدن وقرى بأكملها، ومنها مدينة أريحا التي تمثل المنفذ الوحيد لسكان الضفة الغربية إلى الخارج عبر الجسر مع الأردن.
ولم يتورع الفاشي بن غفير الذي صار وزيراً للأمن عن إصدار تعليماته للإسرائيليين بحمل السلاح وإطلاق النار على كل فلسطيني يشتبهون فيه، بالإضافة إلى دعوته مع حكومته إلى تسليح المستعمرين المستوطنين المتطرّفين، وتشكيل عصابات ومليشيات منهم تنظّم الاعتداءات على الفلسطينيين. وفي توجيهاته لمسؤول شرطة القدس، قال بن غفير بالحرف الواحد: "أغلق عينيك وافعل بهم (الفلسطينيين) كل ما حلمت به".
ويترافق ذلك كله مع تحضيرات لتشريع حوالى 70 بؤرة استيطانية استعمارية جديدة في الضفة الغربية، ومع تحريض أرعن لتنفيذ التطهير العرقي ضد التجمّعات السكانية في مسافر يطّا، والخان الأحمر، والشيخ جراح، ومن اقتحاماتٍ لا تتوقف للمسجد الأقصى، في محاولةٍ لتحقيق تقسيمين: زماني ومكاني، له. وصعّدت الحكومة الفاشية كذلك حملة العقوبات الجماعية ضد عائلات المناضلين والأسرى الفلسطينيين، بتشريع إغلاق بيوتهم تمهيداً لهدمها من دون إجراءاتٍ قضائية، واعتقالات واسعة ضدهم، وتهديدات بترحيلهم.
لكن كل هذه الاجراءات، كما كتب صحافيون إسرائيليون عديدون، عديمة الجدوى، فما فشل القمع في تحقيقه، لن يحققه مزيد من القمع والتنكيل. وفي الواقع، يكرّر حكام إسرائيل ما وصفه أينشتاين بالجنون، عندما يكرّرون فعل الشيء نفسه، ويتوقعون نتائج مختلفة.
أغلبية المجتمع الإسرائيلي والحركة الصهيونية لا تؤمن بحل وسط مع الفلسطينيين
هناك حقائق رئيسية تمخضت عن أحداث الأسبوع الماضي، أولها أن الإدارة الأميركية عاجزة عن القيام بدور بنّاء، بسبب انحيازها المطلق لإسرائيل، وبسبب ضعفها أمام الإسرائيليين، فرئيسها جو بايدن، ووزير خارجيتها بلينكن، لم يتوقفا عن إدانة العملية التي جرت في القدس، ووصفها بأنها "اعتداء على الحضارة الإنسانية"، ولم يدينا المجزرة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي الرسمي في مخيم جنين، ولا عمليات هدم بيوت الفلسطينيين، ولا قتل 35 فلسطينياً، بمن فيهم ثمانية أطفال منذ بداية الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني). ولم يوجد في جعبة وزير الخارجية سوى مواصلة ترداد جملة "حلّ الدولتين"، الذي دمرته جرافات الاستيطان الإسرائيلية، وهو يعرف تماماً لو أن إدارته جادّة في سعيها لحلّ الدولتين، لهدّدت إسرائيل بالعقوبات، حتى توقف على الأقل الاستيطان المستشري، الذي دمر أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة. وفي ردّه على المطلب الفلسطيني بتفعيل مبادرة سياسية، عرض تطوير شبكة الهواتف المحمولة!
وبما أن الإدارة الأميركية بدت عاجزة تماماً، وضعيفة أمام الحكومة الإسرائيلية، بعدم قدرتها على تنفيذ خطوات صغيرة سبق أن وعدت بها، مثل إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس، وفتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وفتح المعبرالوحيد للأردن (جسر الملك حسين) 24 ساعة يومياً، صار واضحاً أن كل الضغط الأميركي كان موجّهاً نحو الجانب الفلسطيني لإعادة التنسيق الأمني المهين والمرفوض شعبياً.
وثانية الحقائق، أن العالم والمحيط في المنطقة لا يلتفتان إلى الفلسطينيين إلا عندما يقاومون الظلم والاحتلال والتمييز العنصري الذي يتعرّضون له. وأكد ذلك ما ثبت مراراً أن على الفلسطينيين الاعتماد على النفس، وعدم انتظار المساعدة من الخارج.
العالم والمحيط في المنطقة لا يلتفتان إلى الفلسطينيين إلا عندما يقاومون الظلم والاحتلال والتمييز العنصري الذي يتعرّضون له
وثالثاً، إن وصول الفاشيين إلى الحكم في إسرائيل، وترسيخ أكثر الحكومات عنصرية وتطرّفاً، يؤكّدان أن أغلبية المجتمع الإسرائيلي والحركة الصهيونية لا تؤمن بحل وسط مع الفلسطينيين، بل تسعى لضمّ كامل أرض فلسطين وتهويدها. وفي لقائه مع شبكة CNN، لخّص رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، سياسة حكومته بالقول إن أولويته التطبيع مع الدول العربية، وإنهاء "الصراع العربي الإسرائيلي"، وبعد الانتهاء من ذلك العودة للفلسطينيين للتوصل إلى ما سمّاه "سلاماً عملياً"، ومضمونه رضوخ الفلسطينيين لعبودية الاحتلال ونظام الأبارتهايد الإسرائيلي، مع إعفاء كامل لمسؤولية إسرائيل عن شؤون واحتياجات حياتهم في إطار ما سمّاه "حكم أنفسهم".
ورابعاً، الحاجة الملحّة فلسطينياً للإسراع في إنهاء حالة الانقسام الداخلي، وتوحيد قواهم في قيادة وطنية موحّدة تكون قادرة على مواجهة خطر الفاشية المنفلتة من عقالها.
وخامساً، إن الطابع الفاشي لحكومة الاحتلال يمثل فرصة لا تعوّض فلسطينياً لكشف منظومة الاحتلال والأبارتهايد العنصري وتعريتها، وتصعيد المطالبة عربياً ودولياً، بوقف التطبيع معها، وفرض العقوبات والمقاطعة عليها.
لم يكن الانفجار الذي شهدته فلسطين الأسبوع الماضي سوى سيناريو مصغّر للانفجار الكبير الذي يمكن أن يحدُث، إن أمعنت حكومة إسرائيل في جرائم القتل والتنكيل، أو أقدمت على عمليات تطهير عرقي في مناطق ج، أو صعّدت إجراءاتها القمعية ضد الأسرى والأسيرات في السجون الإسرائيلية، أو إن سمحت بارتكاب كبرى الكبائر بالاعتداء على المسجد الأقصى وتدنيسه، وواصلت سياسة قتل الفلسطينيين، وتدمير الأمل لديهم.