في نواقص "قمة الديمقراطية"
استضافت الولايات المتحدة افتراضياً يومي الخميس والجمعة الماضيين (9 و10 ديسمبر/ كانون الأول) مؤتمر "قمة من أجل الديمقراطية"، حاولت واشنطن تصويرها ذراعاً جديداً لحماية الديمقراطية في العالم، ويمكن القول، بثقة، إنّها انتقصت من الرصيد الأميركي الضئيل أصلاً في دعم الحقوق الأساسية للشعوب، فالأهداف التي وضعتها واشنطن لتلك القمة هي تعزيز الديمقراطية والدفاع ضد الاستبداد ومواجهة الفساد واحترام حقوق الإنسان، غير أنّ ملابسات القمة ومجرياتها لا تحمل بوادر إيجابية بشأن تحقق أيٍّ من هذه الأهداف.
بعد أيام قليلة من إعلان فوزه في الانتخابات الرئاسية، أكد جو بايدن أنّه سيعقد مؤتمر قمّة لتعزيز الديمقراطية في العالم، غير أنّه احتاج عاماً لكي ينفذ هذا الوعد، ما يعني أنّ تلك القمة الافتراضية واجهت صعوباتٍ مبكرة. وبعدما حسم أمره، واتخذ قرار عقد القمة، ظلت قائمة الدول والأطراف المدعوّة إليها محل تخمين، بسبب عدم إعلان معايير محدّدة لأهلية المشاركين في القمة. وضم الإعلان عنها فئتين من الدول: تلك التي تعتبرها واشنطن ديمقراطية، ودول أخرى "على طريق الديمقراطية" وفقاً للإعلان الأميركي نفسه. وتجاهل هذا التقسيم التداخل والتعقيد الذي يميّز علاقة السلطة بالمجتمع في أي دولة، فدولٌ كثيرة تزعم أنّها تتبنّى آليات ديمقراطية وصيغاً تسمح بالمشاركة السياسية وحرية التعبير. وبعضها تُطبق بالفعل، ولو شكلياً، بعض تلك المظاهر والمقوّمات الضرورية لممارسة الديمقراطية، مثل الانتخابات. لكن من المستحيل عملياً الجزم بمدى صدقية تلك الآليات، والظاهر في ترجمة المفاهيم والمبادئ الحقيقية للديمقراطية، أي مقومات ومقتضيات أن يكون الشعب هو الحاكم والحَكم.
ما جرى أنّ واشنطن وجّهت الدعوة بالفعل إلى دول غير ديمقراطية .. واستبعدت دولاً أخرى لا مشكلات حقيقية لديها في التمثيل السياسي أو المشاركة بالمعنى الواسع. بل خالفت قائمة الدول المدعوة تقارير المنظمات الحقوقية والديمقراطية الأميركية نفسها، مثل منظمة "فريدوم هاوس" التي تضمّن تقريرها السنوي عن حالة الديمقراطية في العالم انتقاداتٍ قوية للأوضاع السياسية في الكونغو الديمقراطية، ثم دعتها وزارة الخارجية الأميركية إلى القمة. وبغضّ النظر عن تقييمنا حياد (وصدقية) تلك المنظمة ومثيلاتها، المهم أنّها أميركية وتتجاهل الحكومة الأميركية تقاريرها. وهناك أيضاً دولٌ لا يُعرف عنها أيّ مظاهر للحريات السياسية، ولا تجارب حقيقية لها في الديمقراطية، على الأقل بالمعنى الليبرالي الذي تتبناه وتزعم الدفاع عنه الولايات المتحدة.
بالتأكيد، من المهم فتح ملف قضايا الحريات والمشاركة والحقوق الأساسية مع الحكومات الدكتاتورية، لكنّ تحرّكات واشنطن تمزج بين حثّ دول على مزيد من الحريات والتزام حقوق الإنسان، وبناء تحالف عالمي بين الدول الديمقراطية بالفعل. ومن المهم هنا معرفة أنّ ذلك التحالف ركنٌ جوهريٌّ في استراتيجية واشنطن العالمية حالياً. بل هو يمثل المدخل الأساس لقمة الديمقراطية التالية التي تنوي واشنطن عقدها بحضور مباشر، وليس افتراضياً، في ديسمبر/ كانون الأول العام المقبل 2022.
ليس من الواضح، إذاً، هل تعمل واشنطن على التنسيق والتعاون مع الدول الديمقراطية بالفعل لتشكّل منها منظومة عالمية في مواجهة بقية الدول غير الديمقراطية؟ أم أنها تستهدف بتحرّكاتها تلك الدول المطالبة بالديمقراطية لتشجعها أو تستميلها أو حتى تجبرها على ذلك؟
قد تنوي إدارة بايدن العمل على المسارين، ولا مشكلة في ذلك، على أن يكون وفق خطط واضحةٍ ومحدّدة وتميز بين المسارات، وتراعي الخصوصيات، وتستهدف الواقع الذي تعيشه الشعوب، ولا تتظاهر بتصديق ما تدّعيه الحكومات المستبدّة سواء من تهديدات مفتعلة أو مظاهر ديمقراطية كاذبة، غير أنّ الانتقائية وخلط الأوراق واستدعاء معيار المصالح الاقتصادية والاستراتيجية في سياق حقوقي وإنساني دلائل كافية للتشكك بقوة في نيات واشنطن، وبالتالي في أعمالها.