في وحشية الطبيعة
مَن هُم هؤلاء الذين أقنعونا بأن الطبيعة لطيفة مُحبّة، أنها أمّ رؤوم، غذاءٌ للعقل والروح، وسكينةٌ وسِعَةٌ ودِعَةٌ؟ من هم الذين أفهمونا أن الإله أوجدَها لنا خصّيصا، كي ننعمَ بخيراتها وجمالها، آمنين من غدرها وانقلابها علينا ورغبتها بمعسنا أو قذفنا بعيدًا عن ظهرها وإرسالنا إلى الجحيم؟ منذ أن وُجدنا على الأرض، غصبًا عنّا، بفعل مصادفةٍ بحتة أو حادثةٍ ما، وبقاؤنا على قيد الحياة واستمرارُ جنسنا مرهونان بمقدرتنا على خوض صراع يوميّ ضارٍ ضدّ كل أنواع الكوارث والملمّات: زلازل، براكين، فيضانات، حرائق، عواصف، أعاصير، أوبئة، أمراض، إلخ. القائمة تطول، والكائن البشريّ لا يني يُقنع نفسَه بأنه أنهى تدجينَ الكرة العدائية كما يروّضُ مطيّةً، أنه سيطر على الأمراض، وتمكّن حتى من اقتحام الفضاء.
تاريخُ البشرية كلّه صنعته استراحاتٌ قصيرةٌ بين غَضْبةٍ للطبيعة وأخرى، وما جرى في سورية وتركيا منذ أيام، عندما تحرّكت اليابسةُ عند نقطة التقاء ثلاث صفائح، جاء ليُنعش ذاكرتنا الأولى، معيدًا إلى الحياة "دماغ الزواحف" لدينا، معقل ردود أفعالنا البدائية الذي يستيقظ عند كل رعب، ويُرجعنا سنين ضوئيةً إلى الوراء، حين كنّا لا نختلف كثيرا عن مخلوقاتٍ حيّةٍ أخرى كانت تقاسمنا الأرض. ليس سهلا أن نعترف أننا بذلك الضعف، وبتلك الهشاشة، حينما يتعلّق الأمر بقوانين الطبيعة. وليس سهلا أن نعترف أن كل ما بنيناه منذ مئات القرون قابلٌ للانهيار، للاندثار، في ثوانٍ معدودة، وأن تلك الطبيعة التي ندّعي أحيانا أننا صادقناها وهادنّاها، فيما يزعم آخرون أنهم طوّعوها وأخضعوها، قادرة على إهلاكنا وتدمير كل ما شيّدناه في لحظات. ومع ذلك، ثمة من ما زال يدّعي أن بإمكانه أن يتوقّع كوارث، أزماتٍ، أحداثًا، بينما تبرهن لنا الحياةُ كلّ يوم أنّنا أقلّ وأضعف بكثير...
في مؤلَّف قيّم يحمل عنوان "الظلامية الخضراء - القصّة الحقيقية للشرط الإنساني" (دار سيرف الفرنسية، 2022)، يذكّر الأستاذ الجامعي إيف روكو بعمر الأرض الذي يبلغ 4.4 مليارات عام، في معرض انتقاده جهل دُعاة حماية البيئة، ومهاجمته قُصر نظرهم وأحكامهم الواهية بشأن ما يُنزله الإنسان من ضررٍ بالطبيعة، يذكّرهم بشروط وجود الحياة على الأرض، فيقول إن عبادة الكوكب تجتاح الأحزاب ووسائل الإعلام في العالم أجمع، وقد تحوّلت إلى ديكتاتورية أفكارٍ لا تستند إلى أية حقيقة علمية. فما يتمّ تناسيه هو ما ألحقه كوكبُنا هذا بالكائنات الحيّة من أذى، وقد قضى على 99% منها قبل ظهور البشر، وأهلك 21 نوعا بشريا تقريبا، قبل أن ينجح "الإنسان العاقل" (هومو سابيانس) في البقاء على قيد الحياة، معتبرا أن أسباب زوال تلك الأنواع البشرية لم تزل قائمة اليوم، وهي تتهدّدنا بكل أنواع الكوارث، فعبارة "إيكولوجيا" (علم البيئة)، يونانية الأصل تتألف من جزءين، "أويكوس" أي البيت، و"لوغوس" أي العقل. بيد أن البيت لم يكن أبدًا يشير إلى الأرض، بل هو يعني، منذ القدم، المسكنَ أو الملجأ الذي صنعه الإنسان من موادّ وفّرتها الطبيعة، بهدف الاحتماء من أذى الأرض متمثّلا بالبرد والحرّ والحيوانات المفترسة وسواها، فلطالما بنى الإنسانُ لكي يحتمي، وهو ما سمح للنوع البشريّ أن يستمرّ برغم كل شيء.
والخلاصة؟ ما يفوق وحشيةَ الطبيعة بأشواط هو توحّشُ الإنسان ومقدرته المخيفة على التناسي والتغاضي والإهمال، فنحن في بلداننا، على سبيل المثال، خبرنا، منذ أزمان سحيقة، مختلف أنواع الكوارث التي محت عن وجه الكينونة مدنًا بأكملها، مخلّفةً آلاف الضحايا. ونحن، منذ أزمان سحيقة، نعرف أننا بلدانٌ منذورةٌ لوقوع زلازل كبرى، وأننا ندبّ فوق فيالق مصيرها أن تتحرّك عاجلا أم عاجلا. ومع ذلك، وبرغم تقدّم العلم والتقنيات المستخدمة في وضع سياساتٍ تحمي السكّان وتخفّف من خطورة الأضرار، ما زلنا لا نملك خطةَ إدارة كوارث، أو برنامج تشييد مساكن مقاومة للزلازل، كما فعلت وتفعل حكومات البلدان المتقدّمة حول العالم.
والخلاصة؟ لنا الله.