قبل توقّف الحرب وبعده
"ما نتوقّعه نادرًا ما يحدُث، وما نستبعده غالبًا ما يحدُث" ... بنجامين دزرائيلي.
يُنسب إلى ونستون تشرشل قول مشهور، إن الحرب مسألة خطرة جدًا، وجدّية جدًا، بحيث لا يمكننا تركُها للعسكريين وحدهم. وقد أتخَمنا الخبراء العسكريون والاستراتيجيون بتحليلاتهم المتعاكسة والمتخالفة والمتضاربة عن غزّة، الأمر الذي أوقعنا في حيرةٍ واضطرابٍ وبلبلة. ومع ذلك، تحاول هذه المقالة رسم ملامح بعض مجريات الأحوال المشتعلة اليوم، ومصير قطاع غزّة بعد أن تسكت المدافع ويتوقف تهاطل الصواريخ وقذائف الطائرات، خصوصًا بعد أن استعادت فلسطين حضورها الباهر في العالم كله، حتى لو كان هذا الحضور مكللاً بالدم، ومجلّلاً بالموت والخراب.
الواضح أن إسرائيل ما كان يمكنها تحقيق ولو جزء من أهدافها المعلنة إلا بالاجتياح البرّي، فلو توقفت العملية العسكرية قبيل هذا الاجتياح، فإن إسرائيل تكون قد مُنيت بهزيمةٍ مدوّية ستترك ندوبًا هائلة في بنيانها السياسي والعسكري والأمني. إنها تحتاج، بطبيعة الحال، إلى أوراق تتيح لها أن تقول إنها انتصرت وحقّقت ما وَعدت به. ولكن ما هي الأهداف المعلنة لإسرائيل؟ إنها، بحسب منطوق المستوى القيادي الإسرائيلي: تحطيم الوجود المادي لحركة حماس، وإنهاء سيطرتها على قطاع غزّة، واستعادة الأسرى، وتجنب الانزلاق إلى حربٍ في جنوب لبنان، أي أنها تريد تدمير قطاع غزّة رداً على الإذلال الذي حل بالإسرائيليين في 7/10/2023، والقضاء على حركة حماس، وأن تحمي، في الوقت نفسه، جبهتها الشمالية. فهل هذا ممكن؟
تخليص الأسرى الإسرائيليين وتدمير "حماس" هدفان متنافران، ومن المحال تحقيقهما معًا، لأن تخليص الأسرى ربما يتحقّق بالتفاوض غير المباشر، أي من خلال وسطاء. أما تدمير "حماس" فلا يتحقق إلا بالحرب الحاسمة، وعند ذلك لن يكون الأسرى على قيد الحياة. إذًا، ما هي الخيارات المتاحة أمام جيش النازية الإسرائيلية؟
أولاً: احتلال قطاع غزّة والبقاء فيه لترتيب عملية تأليف هيئة محلية للإشراف على الأمور الإدارية والأمنية للقطاع، بعد أن يكون الجيش قد أكمل تدمير البنية التحتية، وقَتَل قادة حركتي حماس والجهاد الإسلامي أو أسرهم، بحسب ما يتوهّم، وتمكن من تخليص من بقوا من الأسرى. وهذا خيارٌ مجنون، لأن الجيش الإسرائيلي سيُواجَه بمقاومةٍ تمرّس بها الغزّيون، وستُعتبر أي هيئة محلية جديدة عميلة، وستكون هدفًا للمقاومين الوطنيين.
يخشى حزب الله من أن يدور الدور عليه إذا تمكّنت إسرائيل من تحطيم حماس في غزّة. وبهذا المعنى، ربما يختار الانضمام إلى الحرب
يريد الإسرائيليون، إذاً، إنشاء نظام أمني وإداري في قطاع غزّة بترتيباتٍ مع بعض الدول العربية، وهذا يعني تشكيل إدارةٍ تتولّى إنفاذ القوانين وبسط سلطتها بمساندةٍ من وحداتٍ عسكريةٍ يمكن جمعها من مصر والأردن والإمارات والبحرين والمغرب، أي "قوة ردع" مؤلفة من عسكريين من دول لها علاقة بإسرائيل. وتلبّي هذه الخطة رغبة الولايات المتحدة في ضرورة مغادرة الجيش الإسرائيلي قطاع غزّة فور الانتهاء من العملية العسكرية، بحيث يمكن ملء الفراغ الذي سيتركه إقصاء حركة حماس عن إدارة شؤون قطاع غزّة بإنشاء هيئة مؤقتة من التكنوقراط ورجال الأعمال للقيام بالمهمّات المطلوبة، على أن يكون للاستخبارات الإسرائيلية الشأن الأهم في مراقبة أعمال تلك الهيئة (الصحّة والتعليم والقضاء وإعادة الإعمار)، وفي مراقبة الحدود والمعابر والبضائع والأشخاص والمنظمات.
ثانيًا: الاجتياح غير الشامل لقطاع غزّة، والاستمرار في قصف منظومة القيادة والسيطرة لحركة حماس في المناطق الأخرى، مع اقتحامات متكرّرة من البرّ على طريقة الأكورديون، أي تقدّم وتراجع، في محاولة لتخليص بعض الأسرى. وهو احتمالٌ ممكن، لكن نجاحه يعتمد على دقّة المعلومات الاستخبارية في شأن الأسرى، وعن أماكن وجودهم ومدى الحراسة حولهم.
المعروف أن أي حربٍ تتطلب حساب أربعة عوامل على الأقل: القدرة العسكرية (وهي موجودة لدى إسرائيل). الأهداف القريبة، أي تحطيم حركة حماس وإلغاء وجودها (أهداف مشكوك فيها جدًا). الأهداف البعيدة، مثل نزع سلاح سكان قطاع غزّة وإقامة حزام أمني بعمق 15 كلم، وهو ما يعبر عنه بـ"تقليص مساحة القطاع" (أهداف مشكوك جدًا في إمكانية تحقيقها). الكلفة. وهنا يمكن الاستنتاج أنه إذا كان تحقيق الأهداف المذكورة مشكوكًا فيه، فلماذا الإقدام إذاً على حربٍ مكلفة جدًا؟ وهذا ما يسأله كثيرون من قادة الرأي والسياسة في إسرائيل.
المؤكّد أن الولايات المتحدة ما برحت تعمل على حثّ الجيش الإسرائيلي على الاستمرار في قصف غزّة
الأهداف الإسرائيلية في الحرب على غزّة واضحة تماماً، لكن الخطّة التنفيذية التفصيلية غير متوافرة، ولا يوجد حتى جدول زمني للحرب (شهر، شهران، ثلاثة أشهر، ستة شهور). وبناء على ذلك، فهمنا، منذ البداية، حالة التردّد في الإقدام على الاجتياح البرّي والحسابات المضطربة للقادة العسكريين الإسرائيليين، مثل: حساب الخسائر المتوقّع أن تكون باهظة جدًا. التخوف من اشتعال جبهة جنوب لبنان، والتي قد تمتدّ إلى الجولان والبحر الأحمر وغيرهما. عمليات المقاومة الفلسطينية ضد الجيش الإسرائيلي في حال تمكن ذلك الجيش من السيطرة على قطاع غزّة أو على أجزاء منه.
بات من الواضح، إلى حد بعيد، أن الولايات المتحدة هي التي تدير فعليًا الحرب الجارية في غزّة، وهي ترغب في: العمل على عدم توسيع نطاق الحرب إلى جبهات أخرى. حثّ الجيش الإسرائيلي على الاستمرار في الحرب. تكثيف العون العسكري والاستخباري لإسرائيل (أرسلت الولايات المتحدة إلى إسرائيل 4000 عنصر من فرق العمليات الخاصة (Delta) والاستخبارات، علاوة على الجنرال جيمس غلين نائب قائد قوات المظليين). وفي هذا الميدان، طلبت إسرائيل من شركة NSO المنتجة لبرنامج بيغاسوس الاستخباري تفعيل أجهزتها لتحديد أماكن وجود الأسرى. تقديم العوْن السياسي والدبلوماسي والإعلامي لإسرائيل، بما في ذلك الكذب الذي لم يتورّع عنه الرئيس جو بايدن (صاروخ مستشفى المعمداني وتقطيع رؤوس الأطفال). ردع خصوم إسرائيل (إيران وحزب الله والحوثيين)، وتهديدهم بالويل والثبور وعظائم الأمور وزيارة القبور إذا فكّروا في دعم المقاومة في غزّة دعمًا مباشرًا لا يمكن احتماله.
المؤكّد أن الولايات المتحدة ما برحت تعمل على حثّ الجيش الإسرائيلي على الاستمرار في قصف غزّة (بيان وزارة الخارجية الأميركية في 23/10/2023)، وعلى تعزيز دفاعات القواعد الأميركية الموجودة في سورية (التنف والشدادي والرميلان وحقل العمر)، وفي العراق (عين الأسد والتاجي وحرير والحبانية)، وفي مصر (الجورة)، وفي الأردن (قاعدة موفق السلطي)، لأن الأميركيين يعتقدون أن تلك القواعد ستكون عرضةً للقصف ما إن تمتدّ الحرب إلى الجبهات الأخرى.
اليمين الديني الإسرائيلي بات أخرسَ. وهؤلاء المستوطنون السفلة يستطيعون دائمًا الاعتداء على قرى الفلسطينيين وأرزاقهم في الأوقات العادية، لكنهم لا يقاتلون في زمن الحرب
أمّا ما يجري في جنوب لبنان فهو عملية مساندة أو مشاغلة للجيش الإسرائيلي، ويهدّد حزب الله، في الوقت نفسه، بالانضمام إلى حرب شاملة في لحظة ما (راجع: خطبة السيد حسن نصر الله في 3/2/2023). وهو أيضا نوع من حرب الاستنزاف المحسوبة بدقّة. واللافت أن حزب الله يمارس سياسة ضبط النفس (57 شهيدًا حتى الاثنين في 6/11/2023)، وتقابله إسرائيل بضبط نفس مماثل (تدمير 12 دبابة ميركافا بصواريخ كورنيت ومقتل سبعة إسرائيليين: ستة جنود ومدني). وقد ابتعدت القوات الإسرائيلية المدرّعة المنتشرة في شمال فلسطين نحو خمسة كيلومترات إلى الخلف، أي إلى أبعد من المدى المجدي لصواريخ كورنيت في محاولةٍ لتجنب الاشتباك مع حزب الله، وجرى، في الوقت نفسه، تعزيز سلاح المسيّرات. ومعظم الذين استشهدوا في جنوب لبنان سقطوا بصواريخ المسيّرات.
وقد أجبرت حرب الاستنزاف هذه في جنوب لبنان إسرائيل على إخلاء المستوطنات من ساكنيها، وعلى جلب كتيبتين عسكريتين إضافيتين ومعزّزتين من وحدات الاحتياط ونشرهما في المنطقة. ومع ذلك، لا يريد حزب الله الحرب، لكنه يتأهل لها، ويُخشى من أن تؤدّي العملية البرّية إلى تصعيد أعلى في القتال في جنوب لبنان وأن تنزلق الأمور إلى حرب شاملة. لكن حزب الله يخشى من أن يدور الدور عليه إذا تمكّنت إسرائيل من تحطيم حركة حماس في غزّة. وبهذا المعنى، ربما يختار الانضمام إلى الحرب بدلاً من انتظار دوره في ما بعد.
ومن إشارات للتأمل: أولا، سرّبت الإدارة الأميركية مرّات عدة معلومات، وأدلى موظفوها بتصريحات عن عدم علاقة إيران بالعملية العسكرية في غزة التي وقعت في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وكان ذلك نوعًا من رسالة تشير إلى أن أميركا لا تريد حربًا مع إيران، لكن على إيران أن تلجم حزب الله ولا تدعه ينضمّ إلى حرب غزّة. ويمكن العودة إلى إعلان وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان عن تلقّيه رسالتين من الولايات المتحدة في هذا الشأن، وإلى خطبة مندوب إيران في الأمم المتحدة، فضلاً عن تصريحات المرشد خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي وعبد اللهيان نفسه في عدم الرغبة في الاشتراك في الحرب. السؤال الآن: إذا اتسع نطاق الحرب فهل تفرّط إيران بالحليف السني الوحيد لها في العالم العربي؟ وهل تفرّط بحزب الله، وهو الجيش الاحتياطي الرديف في مواجهة إسرائيل (راجع المقابلة مع الدكتور عزمي بشارة في تلفزيون العربي – 23/10/2023).
لا يتحقّق تدمير حماس إلا بالحرب الحاسمة، وعند ذلك لن يكون الأسرى على قيد الحياة
ثانيا، لنلاحظ أن اليمين الديني الإسرائيلي بات أخرسَ. وهؤلاء المستوطنون السفلة يستطيعون دائمًا الاعتداء على قرى الفلسطينيين وأرزاقهم في الأوقات العادية، لكنهم لا يقاتلون في زمن الحرب. أين إيتمار بن غفير (وزير الأمن)؟ وأين بتسلئيل سموتريتش (وزير المال)؟ من يقاتل هو الجيش الذي يتكوكب خلفه الإسرائيليون الآن وليس وراء اليمين الديني. وفي بلادنا، يبدو أن صنوفًا من المخلوقات من طراز الدواعش والقاعدة وشيوخ الفتن وباعة فتاوى الجهاد التي تَعِدُ "الشهيد" بمائدة غداء عامرة يُعدّها له النبي الأكرم قد ذابت، ومعها جماعات من عيار جيش محمد وجيش الصحابة وأنصار السنة والطائفة المنصورة وجند الله والسلطان مراد ومجلس شورى المجاهدين، وأتمنى ألا تعود أسماؤهم إلى أسماعنا في أي يوم.
ثالثا، كانت استراتيجية إسرائيل في عهد نتنياهو إقامة سلام مع ما أمكن من الدول العربية من دون حلّ قضية فلسطين؛ وهذا هو جوهر سياسة التطبيع مع العرب. وكانت إسرائيل تتطلع إلى قيام حلف عربي – إسرائيلي في وجه إيران، من دون أن تقدّم أي شيء للفلسطينيين، ولعلها أقنعت بعض الحكام العرب بالتكاتف في نطاق الاستراتيجية الكونية للأمن القومي الأميركي للعمل معًا كي لا تتخلى أميركا في أحوال غير ملائمة عن حلفائها، كما جرى لحسني مبارك وزين العابدين بن علي وعمر البشير، وكي يتمكّن هؤلاء من ردم الفجوة الأمنية التي تركتها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بعدما حوّلت اتجاهها موقتًا إلى المحيط الهادئ ثم إلى أوكرانيا. وهذه الفجوة تملؤها الآن الولايات المتحدة بنفسها في المشرق العربي.
بعد أن يتوقّف القتال، وتسكت المدافع، هل سيبقى الحكّام العرب على اعتقادهم بأن في إمكان إسرائيل أن تقدّم لهم الحماية، أو أن تساهم في تأمين رضا الولايات المتحدة عنهم، في الوقت الذي جرى البرهان فيه أن إسرائيل غير قادرة على حماية مواطنيها ونفسها من دون أميركا؟