قبيلة معلوماتية
كانت سيطرة الدولة المركزية، في العراق ودول مشابهة له في المنطقة والعالم، على الإعلام ووسائل التثقيف، ذات تأثيريْن متناقضين على الأفراد:
في الأول، كانت هذه السيطرة وسيلة فعّالة لبثّ الأخبار والمعلومات والمواد الثقافية والترفيهية وخطاب الدولة الرسمي إلى مختلف الشرائح في المجتمع، بما يجعلهم يخضعون لعملية قولبة وتنميط قسرية، تكسر الحواجز الاجتماعية والمحلية للجماعات، للانفتاح على دائرة كبرى تمثّل الوطن والدولة.
في البثّ المركزي للمواد الإعلامية والثقافية والترفيهية، لم تعد "العتابا"، مثلاً، مجرّد لون غنائي يؤدّيه ويسمعه أبناء البادية الغربية في العراق، وإنما باتت نمطاً يألفه ويسمعه جميع العراقيين، وكذلك الأمر مع ألوان الغناء القادمة من مختلف البيئات العراقية. وبعد جيلين أو ثلاثة، صارت كل هذه المنتجات الثقافية الوطنية معروفةً من المواطنين، بغضّ النظر عن أماكن سكنهم داخل رقعة الوطن، وبغضّ النظر عن طبيعة الأنماط الثقافية السائدة في بيئاتهم المحليّة... وسائل الادماج الاجتماعي والثقافي هذه، مع المدرسة والجامعة والجيش، خفّفت الحدود بين الجماعات، وعرّفت الجميع بالجميع.
في التأثير الثاني، كان الأفراد النابهون، الباحثون عن مزيد من المعرفة، يصطدمون بخطاب الدولة الرسمي، الذي يفلتر ما يريد بثّه للمواطنين واعتماده من منتجات ثقافية أو فكرية.
كان الخطاب المركزي القسري يساهم في إدماج الأفراد العاديين في خطاب الدولة والصورة الوطنية التي يطرحها هذا الخطاب، ولكنه، في الوقت ذاته، يقيّد البحث عن الحقيقة، ويحجب الكثير مما يشوّش على الصورة التي تريد الدولة تصديرها للناس. وفي الهامش المرفوض من خطاب الدولة كانت تزدهر أنماط من الثقافة المحظورة وغير الرسمية، وتلك الشعبية، والتي كان بعضها مبتذلاً وإباحياً، أو ناقداً للسلطة.
حينما دخلت أجهزة التسجيل (المُسجّلات) إلى العراق في السبعينيات، أحدثت ثورة داخل الثقافة الشعبية، فصار كثيرون يستخدمونها لإرسال رسائل صوتية إلى عوائلهم، واستخدمها المطربون الشعبيون منصّةً للإنتاج والتوزيع، بعيداً عن قبضة الدولة، فلم يكن الأمر يتطلّب سوى دعوة إلى الموسيقيين في صالة بيت، وبدء حفلة ارتجالية للغناء يتم تسجيلها في هذه المسجّلة، ثم تنسخ مكاتب الكاسيت في الأحياء الشعبية هذا التسجيل الأصلي وتوزّعه لمئات وربما آلاف المرّات. ولكن هذا الإنتاج والتوزيع كان ينشط في البيئة المحلية للمطرب الشعبي، ونادراً ما يتجاوزه إلى البيئات الأخرى في الدائرة الوطنية، على العكس مما تفعله الإذاعة والتلفزيون الرسميان. وكان من المثير مثلاً أن مطربين معروفين يعيدون تسجيل بعض الأغاني الشعبية للتلفزيون، وتشتهر بأسمائهم، ثم نكتشف بعد سنوات أنها ليست لهذا المطرب المشهور، وإنما لآخر يعيش في الهامش غير الرسمي وغير المعترف به.
لاحقاً، مثّل الانفتاح المعلوماتي وعصر البثّ الفضائي والإنترنت انعتاقاً كليّاً من ربقة السيطرة المركزية للدولة على وسائل الإعلام والتثقيف. وكان هذا، بالنسبة للأشخاص النابهين، وسيلة هائلة للتحرّر من التصوّرات التي كانت تصدّرها الدولة المركزية عن نفسها وعن المجتمع والعالم. وتلاشت الحدود والجغرافيا والأوطان في خريطة المعرفة. ولكنها، من جانب آخر، مثّلت انتصاراً لأنماط الثقافة الشعبية، تلك التي كانت تزدهر في الهامش، وتلاشياً لقدرة الدولة على تنميط الأفراد وطنياً، بل وإجبارهم على التنافذ مع الآخر المختلف داخل رقعة الوطن.
من المدهش أن تتعرّف اليوم إلى شخصٍ لا يعرف شيئاً عن الجماعات السكّانية الأخرى المجاورة لحيّه السكني داخل بغداد، والسبب أنه أنشأ من هذا الانفتاح المعلوماتي الهائل "قبيلته الخاصّة"، وظلّ يتحرّك داخل حدودها. إنه لا يستفيد من حرية المعلومات إلا باختيار قيوده الخاصّة التي تقيّده ويعزل بها نفسه عن العالم!
العودة إلى الخلف، إلى سيطرة الدولة المركزية على الإعلام والتثقيف، ضربٌ من الخيال. وصرنا اليوم، بعد أكثر من عقدين على الثورة المعلوماتية، أمام نمط جديد من المواطنين، الذين لا يتماسكون مع بعضهم بصمغ الأيديولوجيا الوطنية وثقافتها المركزية، وإنما بالمصالح المشتركة. أما في الثقافة والإعلام، صار كلّ فرد فينا جزءاً من "قبائل كبرى" فوق وطنية، تتحرّك داخل المجرّة الهائلة للانفتاح المعلوماتي.