"قلِق في بيروت"... تركة تتناقلها الأجيال
أقرّ أني ما عدتُ أعرف، أني لا أمتلكُ رأيا قاطعا في أية مسألة من أي نوعٍ كان، وأنه لو أتيح لي ألا أتابع البتّة ما يجري، لفعلتُ عن قناعةٍ وبارتياح. فلو جاءت ساحرة إليّ اللحظة بعصاها السحرية القادرة على تحقيق كل الأمنيات مهما شذّت واستعصت، وسألتني أن أتمنّى ما أشاء، من دون حدود أو محاذير أو سقوف، كأن أطلب مثلا حلّا لمعضلة البلاد التي أنا منها، فلن أعرف حتما ما الذي ينبغي أن أتمنّى لكي تُحلّ مشكلةٌ تنخر فينا كالسوس منذ عقود. لم أعد أدري مثلا، وكنت في السابق أدري وعن اقتناع، إن كان يجب التمسّك بلبنان موحّدٍ أو إن كان ميثاق العيش المشترك ما زال يعني لكثيرين، أو إن كان من الأفضل للطوائف المتناحرة، المنفصلة أصلا، أن تنفصل حبّيا أو بالتراضي في إطار مشاريع الفيدرالية والكونفيدرالية التي تتكاثر وتنمو، منعا لاشتعال حروبٍ أهليةٍ مقبلةٍ لا محالة، أو إن كان ما يروج عن التحضير لمؤتمرٍ ما في الخارج سيُؤخذ إليه اللبنانيون ليفكّروا في نظام آخر أو صيغةٍ أخرى يفصّلها على مقاسه من يعطّل اليوم الحياة السياسية، ويصادر قرار السلم والحرب بقوّة السلاح. لم أعد أفهم أو أستوعب أو أدرك، وقد أصبحتُ، وكثر سواي، مثل مريضٍ مصابٍ بالذُهان يتفرّج على ما يدور أمامه، فلا تأتيه مشاعر أو ردود فعل، ولا يتعاطف حتى مع بني جلدته من المرضى الممنوعين من دخول المشافي، والفقراء الباحثين في النفايات عمّا يقيتهم، أو الشباب الماضين صفوفا طويلة، بما حملوه في حقائبهم الصغيرة، إما إلى مطارات العالم بحثا عن إمكانية استرزاق ولجوء، أو إلى الموت المحتوم غرقا في البحار.
وحدهم أبناؤنا وبناتنا المحاصرون مثل فئرانٍ في أقفاص، ما زالوا يثيرون فيّ شجنا ما، أن أراهم يعيدون أداء الأدوار نفسها، في القصة المقيتة التي عشناها وحفظناها وكرّرناها إلى ما لا نهاية وحتى الغثيان، فأن تُقفل باب الحلم في وجه شاب، أن تسدّ الأفق، وتقفل المنافذ، وتقطع الأكسيجين، وتكسر المدى، وتصمّ الآذان، وتهيّض الأجنحة، وتتسبّب بجراحٍ لا تندمل طيلة حياة بأكملها، أن تفعل هذا كلّه، ثم تعيد وتكرّر الجريمة ذاتها، جيلا إثر جيل، عقدا إثر عقد، من دون أن تتعرّض لأية محاسبة أو مساءلة، ومن دون أن ... من دون أن تقدّم حتى اعتذارا بسيطا، ولو، كلمة اعتذار؟!
خطر لي هذا وأنا أشاهد فيلم "قلِق في بيروت" (جائزة الكأس الذهبية في مهرجان شنغهاي السينمائي الدولي 2023)، للشاب زكريّا جابر، الذي لم يتمّم بعد الثلاثين، والذي يروي فيه مشاهداته لما جرى في بيروت ليلة انطلاق انتفاضة 17 تشرين الأول (2019)، مرورا بتفشّي كورونا وانفجار مرفأ بيروت، وصولا إلى الانهيار التام الذي ما زلنا نعيش مفاعيله. ثلاث سنوات، صوّرها زكريّا بعدسة عينيه الثاقبتين وأعين رفاقه الذين نراهم يعدّون حقائبهم في انتظار لحظة إفراج الفيروس عنهم، ونراه يحملهم في سيارته واحدا تلو الآخر ليودّعهم على أعتاب المطار. أفكّر بزكريّا وبجيله وبكل ما آسوه وآسيناه كلبنانيين، ولا أملك سوى الاعتذار. عُذرا على هذي البلاد أودّ لو أقول له، عُذرا على ما فعلنا ولم نفعل، عُذرا لأننا لم نعتذر، جيلا إثر جيل إثر جيل، على خرابٍ نحن مسؤولون على الأقل عن بعضه. الجيل الذي سبق جيلي وشارك في الحرب بشكل مباشر وإنْ عن قناعة أو رغبة بإحداث تغيير، لم يعتذر لنا، هذا ما كنّا نقوله أنا و"هناء"، أكثرهم لم يفعلوا على الأقل، ونحن أيضا لم نعتذر لمن جاء من بعدنا، وإنْ كنّا نعتبر أنفسنا الجيل الضحية لحربٍ طحنت عظامنا وأحلامنا وما زلنا لم نفق منها.
ولكن لا بأس. أنا، يا زكريّا جابر، وبعدما رأيتُ فيلمك المؤثّر "قلق في بيروت"، أقدّم لك كل الاعتذارات على بلادٍ لا تليق بابتسامة عينيك وأعين رفاقك ولا تستأهل كل هذا الأسى الذي اختصرته بلازمة: "في هذا البلد هناك خياران: إما الطائرة أو التابوت".