قمة المناخ بنسختها المصرية... في حضرة الاستبداد
ينجح النظام المصري بجدارة في توجيه الرسائل المباشرة وغير المباشرة لدى كل استحقاق يمسّ حياة الشعب المصري وحقوقه وحرياته، محملاً إياها كل ما يريد إيصاله إلى من يعنيهم الأمر من أبناء البلاد، أو ممن يراقبون أوضاعها في الدول الأخرى. جديد هذه الرسائل ما وجّهه النظام قبيل "قمّة الأمم المتحدة السنوية للتغيُّر المناخي" (COP27) التي تعقد الأسبوع الجاري في شرم الشيخ، حين شنّ حملة اعتقالات واسعة على خلفية دعوة إلى التظاهر. ومن هذه الرسائل ما كان بحجم مجزرة، اقترفها النظام عبر إعدام أشجار معمّرة في شوارع وميادين وحدائق، موحياً بذلك إلى منتقدي سياساته الخاصة بحقوق الإنسان أو البيئة أن لا انزياح عن هذه السياسات، أيّا كان نوع القمم التي ستقام في حضرة استبداده.
واختيرت مصر لاستضافة القمة بفضل النظام المتبع في عقدِها، والذي يجري سنوياً بالتناوب بين القارّات، إذ كانت مصر الدولة الوحيدة في أفريقيا التي تقدّمت لاستضافتها. وتعقد ما بين 6 و18 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، بحضور قادة 197 دولة، كما ستجري أعمالها بحضور مسؤولين في الأمم المتحدة، وغيرها من المنظمات الدولية، وشخصيات سياسية وفكرية، وسيحضُرها آلاف النشطاء في مجال البيئة من كل العالم. وتعد القمة التي تعقد للسنة السابعة والعشرين على التوالي فعالية نصَّت على عقدها اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية المتعلقة بالمناخ، والتي تهدف إلى الحدّ من تأثير البشر على المناخ. ومن المتوقع أن تصل الدول المشاركة إلى اتفاق لتخفيض نسبة انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون وغازات الدفيئة، بهدف تقليل معدل زيادة حرارة الكوكب درجة ونصف مئوية. ولكن، هل تعدّ سياسات الحكومة البيئية ومناخ الحياة والحقوق في مصر بيئة صالحة لقمة أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها تخوض في الحقوق، هذا الملف المحرَّم الاقتراب منه في مصر؟
تعدّ الحكومة المصرية معادية لمنظمات المجتمع المدني التي تحمل على عاتقها مهمة بثّ الوعي البيئي تجاه التغيُّر المناخي
لذلك نرى أن القمة تُعقد، ليس في ظل الاعتقالات الدائمة وظروف التضييق على الحريات، والحرمان من الحقوق، فحسب، بل في ظل حربٍ شنّها النظام منذ انقلاب رئيسه، عبد الفتاح السيسي، سنة 2013، ولا يزال يشنّها على الإنسان والطبيعة، وعلى مستقبل الأجيال الحالية والقادمة. في هذا الإطار، لا يمكن فصل ما اقترفه النظام بحق الغطاء النباتي الذي يساهم في تحسين ظروف العيش في بعض المناطق والمدن، فيما بات يُعرف بـ "مذابح الأشجار"، عما يقترفه من اعتقال وتغييب وقتل وتهجير وتفقير، وغيرها من الانتهاكات. هذه المذابح التي كانت أكثر وضوحاً، وبدت ممنهجة لدى قطع أشجار حدائق المنتزه في الإسكندرية سنة 2018. ثم تتالت المجازر مع قطع الأشجار في الحدائق العامة في بورسعيد والمنصورة والإسماعيلية، ثم تبعتها مذبحة الأشجار التاريخية في حديقة المريلاند وحديقة الأسماك في القاهرة، ليستمر مسلسل المذابح في بعض الشوارع الرئيسية.
قبل فترة، ولكي يظهر بمظهر الملتزم بحقوق الإنسان، أطلق النظام سراح معتقلين سياسيين، في محاولة لتلميع صورته، علها تكون جزءاً من حملة التلميع الكبيرة التي ستتكلل مع انعقاد القمة. ولكن هذا النظام أعاد اعتقال بعض من أطلق سراحهم على خلفية الاتهام بالانتماء إلى منظمات إرهابية أو نشر أخبار كاذبة. كما شهدت الفترة الماضية استمراراً لسياسة منع السفر، وتجميد أصول وأملاك من لم يودعوا في المعتقلات. وإذ من المفترض في أي دولة مرشّحة لاستضافة قمة من هذا النوع أن يكون لديها حد أدنى من معايير حقوق الإنسان، إلا أن مصر التي تفتقر إلى هذا الحد يمكن أن تمنع أبناءها وشبابها من التجمّع خارج القاعات التي ستشهد أعمال القمة، للاحتجاج على سلوك دول العالم المخرّبة للمناخ، كما يحدث عادة في دول تستضيف القمة. وفي الحديث عن الحدود الدنيا، وفيما يخص الوعي البيئي، تعد الحكومة المصرية معادية لمنظمات المجتمع المدني التي تحمل على عاتقها مهمة بثّ الوعي البيئي تجاه التغيُّر المناخي، في الوقت الذي تتقاعس فيه الحكومات عن فعل ذلك، لذلك يكمن التناقض بين استضافة مصر القمة وفرصة زيادة الوعي بين أبنائها.
ارتفاع درجة حرارة الأرض سيزيد من ارتفاع مستوى البحر، إلى درجة سيُغرق معها مدناً مصرية، وسيبتلع البحر منطقة الدلتا الخصبة
تخشى منظمات حقوق الإنسان المصرية، ومنظمات المجتمع المدني، أن تتجاهل الدول المشاركة في القمة أزمة حقوق الإنسان والانتهاكات التي لم تتوقف السلطات المصرية عن ارتكابها منذ انقلاب 2013، وهو ما يمكن أن يُعد تطبيعاً مع هذه الأزمة، سيساهم بالضرورة في زيادة إيغال النظام في انتهاكاته. وإن حدث هذا، وهو قابل للحدوث، اعتماداً على ما مارسه الغرب من تغاضٍ عن تلك الانتهاكات، حين فضّل التعامل مع السيسي، على الرغم من وصوله إلى الحكم عبر انقلاب، وعلى الرغم من أنه نصَّب نفسه ديكتاتوراً، من أجل ابتزازه في الصفقات المجحفة بحقّ مصر، عندها فإن الحصار المفروض على المجتمع المدني سيتعاظم، والآمال المعقودة على إمكانية إجبار النظام على تغيير سياساته ستتضاءل. وهنا تنقلب الفرصة في إحداث تغيير في سلوك النظام إلى فرصة للنظام لتلميع صورته، وهو ما سيُفقد القمة جزءاً من مصداقيتها.
في ظل التطرّف المناخي الذي اتضح بشكل كبير هذه السنة، حين ضربت الفيضانات دولاً عدة، وساد الجفاف في دول أوروبية لم تعهده منذ عشرات السنين، في هذا الوقت، تبدو مصر في مقدمة الدول المهددة بتبعات التغير المناخي. إذ من المعروف أن ارتفاع درجة حرارة الأرض سيزيد من ارتفاع مستوى البحر، إلى درجة سيُغرق معها مدناً مصرية، وسيبتلع البحر منطقة الدلتا الخصبة، التي تعد المصدر الرئيسي للمحاصيل الغذائية التي يعتمد عليها المصريون في معاشهم. وهنا، يكمن التساؤل بشأن قدرة مصر على مواجهة التغيرات المناخية. وللتصدّي لهذه المخاوف أطلقت مصر، في مايو/ أيار الماضي، "الاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ في مصر 2050"، "للتصدّي لآثار وتداعيات تغيُّر المناخ بما يساهم في تحسين جودة الحياة للمواطن المصري"، كما جاء في وثيقة هذه الاستراتيجية.
ولكن هل ينفذ النظام المصري المهمات التي ألقاها على عاتقه في هذه الوثيقة؟ تدمير الأشجار، وتجريف القرى في سيناء، والموافقة لإثيوبيا على بناء سد النهضة الذي سيهدّد الحياة في مصر، جميعاً نقول إن هذه الاستراتيجية وجميع التعهدات التي يقطعها على نفسه ليست سوى حبر على ورق عند نظام لا ينظر إلى الحقوق سوى أنها تهديد لوجوده، سواء كان حق الإنسان في العيش الكريم، أو حق الشجر في البقاء في الساحات والحدائق، واستضافة الطيور، ونشر الفيء فوق المتعبين.