قمة النقب: كأغنامٍ أمام المقصلة الإسرائيلية
ماذا لو عاد نزار قباني الآن، وألقى نظرةً على المشهد العربي؟ أغلب الظن أنه سيهتف: يا لسذاجتي! وهو يطالع ما كتبه قبل رحيله على هيئة سؤالٍ مفرطٍ في الفانتازيا، بمعايير تلك الأيام، يقول فيه: ثم هل جاء زمان فيه نستقبل إسرائيل بالورد .. وآلاف الحمائم و النشيد الوطني؟ ماذا لو عرف نزار قباني أن إسرائيل اليوم باتت تأنف وتقرف من زيارة عواصم العرب، التي تستقبلها بما هو أكبر من الورد والحمائم والنشيد الوطني، إذ صارت هذه العواصم تستقبلها بالصلوات اليهودية، والأناشيد التوراتية، والأطفال المصبوغين بألوان علمها؟ ماذا لو أخبروا نزار قباني بأن العرب صاروا يحجّون إلى إسرائيل، ويجتمعون في خيمتها، ويتّخذونها "البيت الكبير" الذي يُستضافون فيه، وتنعقد به قممهم واجتماعاتهم برئاستها؟
الواقع الحالي يُخرج لسانه ساخرًا لما كان يعد خيالًا قبل أكثر من ربع قرن، وينطق بكل اللهجات العربية، أن إسرائيل هي الشقيقة الكبرى التي تأمر فتُطاع، وتمرض فتهرع سواعد النظام العربي تعرض أوردتها لشفط ما قد يكون بقي فيها من دماءٍ لا تشبه دماء الشهداء وأبطال المعارك الجرحى.
قمّة عربية، على مستوى وزراء الخارجية، تستضيفها إسرائيل التي اختارت لحضورها مصر والإمارات والمغرب والبحرين، ومعهم الولايات المتحدة، في النقب الفلسطينية المحتلة، ووصفها رئيس حكومتها بأنها يومٌ تاريخيٌّ ومؤثرٌ جدًا لإسرائيل التي أدرك العرب أخيرًا أنها في خندقٍ واحدٍ معهم.
على مسافة يومٍ قبل القمة الصهيونية، كان قادة محور التطبيع العربي، السيسي وبن زايد والكاظمي، قد التقوا للتشاور في الأردن، بضيافة ملكها، بعد أيام من اجتماع ثلاثي في شرم الشيخ بحضور رئيس حكومة الاحتلال والسيسي وبن زايد.
تتزاحم كل هذه الانقلابات المرعبة في توقيتاتٍ بالغة الدلالة، حيث ذكرى توقيع أنور السادات مع الصهاينة على تدشين المسار الذي تنطلق فيها السياسة العربية الآن، وذكرى يوم الأرض الفلسطيني، الذي يتراجع في الذاكرة، ويذبُل الاهتمام به، حيث الشغل الشاغل للعرب الرسميين الآن هو الحصول على الرضا السامي الإسرائيلي، بعد أن باتوا لا يخجلون من إبداء التململ من أي حديثٍ عن إسرائيل، باعتبارها احتلالًا أو مشروعًا استعماريًا، إلى الحد الذي يحكُمون معه الحصار على كل أشكال المقاومة، حتى تكاد تكون قضية العرب المركزية الآن هي حماية إسرائيل من الأطماع الفلسطينية في التحرّر وامتلاك قوة المقاومة، والتمسّك بحلم العودة، حقًا وواجبًا مفروضًا على كل فلسطيني وعربي.
لن يفاجئني شخصيًا أن تصدُر عن النظام العربي بياناتٌ في قادم الأيام تندّد بالمضايقات الفلسطينية لإسرائيل، أو تتحدّث عن الفلسطينيين بوصفهم مستوطنين في أراضٍ تخصّ دولة صديقة، وحليفة، بل قائدة لتحالفٍ واسع، لا عدو له سوى إيران ومحورها، فكل ما كان أحلامًا وأفكارًا محلقة في الفضاء قبل عشر سنوات، أصبح واقعًا يتحرّك على الأرض، وما كان يتحدّث عنه بنيامين نتنياهو في أغسطس/ آب 2014 لم يكن أمنيات أو تنبؤات صادمة، حين أعلن أمام العالم عن ميلادٍ وشيكٍ لما أطلق عليه "حلف إقليمي جديد" يجمع إسرائيل ودولاً عربية.
هذا الحلم، أو هذه النبوءة الواثقة، وجدت في الرياض السعودية من يقول لها سمعًا وطاعة، حين جمع دونالد ترامب حكام العرب في حفل تدشين "محور اعتدال" في العام 2017، لنصل إلى العام 2018 لتستضيف السعودية أول قمةٍ عربيةٍ تكتب قراراتها بالحبر الصهيوني، تحت شعار "قمة الظهران: سلام مع إسرائيل ومواجهة مع إيران".
بعدها ينطلق ماراثون التطبيع، وبعد أن كان الكلّ يزايدون على الكلّ بأنه الأقرب لفلسطين، باتوا يزايدون على بعضهم بعضا بالقربى من الاحتلال الصهيوني، ليمرّ أمام أعيننا شريطٌ من الجنون، نتصوّر مع كل لقطة فيه أن هذا أبعد مراحل السقوط التطبيعي، ليفاجئنا طرفٌ باقتحام المزاد، مرتفعًا بالسقف إلى ما كنا نظنّه ذروة الهرولة .. سباق لا يتوقف ولا يعرف له أحد نهاية، يتنافس فيه الإسلامي الأممي (أردوغان) والعروبي القومي (سلسلة طويلة من عرب المشرق والمغرب) يتنافسون وقد اطمأنوا تمامًا لموات الشعوب وعجزها اليائس عن مجرد التفكير في التعبير الجاد والعملي عن التصدّي لكل هذا العار الذي يلف الجميع.
باتوا متأكّدين من أنهم حقّقوا حلم نتنياهو، وأحلامهم بالقضاء على العقبة الوحيدة أمام التطبيع، كما صاغه في مفتتح تلك العشرية العربية المشينة، بالقول إن "أكبر عقبة أمام توسيع دائرة السلام ليست زعماء الدول التي تحيط بنا، بل هي الرأي العام في الشارع العربي الذي تعرّض، على مدار سنوات طويلة، لدعاية عرضت إسرائيل بشكل خاطئ ومنحاز".
قتلوا شعوبهم، ثم استداروا يقفون كما وصفهم نزار قباني: بالطوابير، كأغنامٍ أمام المقصلة.