قيس سعيّد وهندسة المشهد الانتخابي في تونس
مع اقتراب موعد إجراء الانتخابات الرئاسية التونسية المزمع عقدها في 6 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، ومع استبعاد الهيئة العليا المستقلة للانتخابات 14 ملف ترشّح من القائمة الأولية للمترشّحين للانتخابات الرئاسية، والإبقاء فقط على ثلاثة ملفات، أحدها للرئيس قيس سعيّد، يبدو أنّ الأخير قد أتمّ إجراءات هندسة المشهد الانتخابي، لتعبيد الطريق أمام خماسية جديدة من المتوقّع أن تكون أسوأ من سابقتها.
تظهر القراءة التحليلية لمجمل الإجراءات التي سبقت إعلان القائمة الأولية للمرشّحين أن انتخابات أكتوبر في تونس لن تخرج، حسب محللين وكُتّاب عديدين، عن إطار الديكور السياسي الباهت الباحث عن إضفاء شرعية لرئيس يبدو أنّه فاز بالانتخابات قبل بدايتها أو حتّى قبل إعلان نتائجها، والمتتبع لمجمل الإجراءات التي سبقت إعلان القائمة الأولية للمرشّحين، لا بد وأن يدرك هذه الحقيقة التي ثبتتها القائمة الأولية للمرشّحين للاستحقاق الرئاسي، والتي توضّح نيات السلطة وبوصلتها بشأن الانتخابات.
اقتصار القائمة على منافسين اثنين فقط لسعيّد، أحدهما، وهو الأمين العام لحزب حركة الشعب، المؤيّد لمسار سعيّد وإجراءاته منذ انقلابه غير الدستوري في 25 يوليو/ تموز 2021، زهير المغزاوي، والآخر هو الأمين العام لحركة عازمون العياشي زمال، في حين استُبعد كلّ المنافسين الجدّيين لسعيّد، يُؤكّد بما لا يدع أي مجال للشك عدم نزاهة السلطات التونسية من خلال اختيارها مرشّحين على مقاس معين أو أشباه منافسين لسعيّد، لضمان ولاية جديدة لسعيّد تمتد خمس سنوات أخرى، وهذا ما أكّدته إجراءات التصفية الإدارية والسياسية التي قامت بها وزارتا العدل والداخلية، ومعهما الهيئة العليا للانتخابات، بوضعها العراقيل والحواجز أمام المرشّحين الجدّيين كلّهم، الذين كان من الممكن أن يُشكّلوا خطراً على حظوظ سعيّد في الانتخابات، فليس من باب المصادفة أن يُحكم على بعض المرشّحين للانتخابات الرئاسية قبل غلق باب الترشّحات بيوم بالسجن مدّة ثمانية أشهر، وأن يُمنع مرشّحون محتملون آخرون من بطاقة السوابق العدلية، قبل أقلّ من 48 ساعة عن غلق باب الترشّحات، وبالتالي كلّ مرشّح جادّ إمّا زُجّ في السجن بتهم واهية مفضوحة، أو استُبعِد ملفّه من قائمة المرشّحين، ومنهم رئيس حزب عمل وإنجاز عبد اللطيف المكي، ورئيس حزب الشعب الجمهوري لطفي المرايحي، والوزيران السابقان المنذر الزنايدي وغازي الشواشي، والناشط السياسي الصافي سعيد، والضابط المتقاعد محمد عادل، ورئيسة الحزب الدستوري الحرّ عبير موسي، وغيرهم.
الانتخابات محسومة لمصلحة سعيّد، على الرغم من أنّه يدخل السباق الانتخابي بحصيلة ضعيفة جداً
وبالتالي، استخدم وزارةَ الداخلية وقانونها الانتخابي، الذي سنته لوضع التعقيدات الإدارية التعجيزية أمام المرشّحين المحتملين، والتي تسمح لها بانتقاء الترشيحات واستبعاد الخصوم السياسيين، حتّى لا يبقى في المضمار سوى سعيّد تقريباً، من خلال منع الأشخاص المعنيين من الحصول على وثيقةٍ تثبت خلوَّ سجلّهم الجنائي من المخالفات والسوابق، وهي وثيقة ضرورية لدخول السباق الانتخابي، واستخدام القضاء لتصفية العديد من المرشّحين من طريق قضايا مفبركة لم تحترم الحدّ الأدنى من احترام الإجراءات القانونية حتّى الشكلية منها، هذا عدا عن المناخ الانتخابي بشكلٍ عام، والذي لا يضمن بشكله الحالي تكافؤ الفرص بين المرشّحين، يُؤكّد هندسة المشهد الانتخابي، ووجود طرف يدير اللعبة، وقد وضع قواعد لها استُبعد من خلالها المنافسون الجدّيون، ورسم حدوداً لتحرّك أشباه المنافسين بعد اختيارهم، لتكون حلبة التنافس مفتوحة أمام سعيّد في ظلّ غياب أيّ شخصية قادرة على قلب الموازين في هذه الانتخابات ضدّه. لذلك، ليس من باب التكهّن القول إنّ الانتخابات محسومة لمصلحة سعيّد، على الرغم من أنّه يدخل السباق الانتخابي بحصيلة ضعيفة جداً على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والخدمية، رغم جمعه سلطات الدولة كلّها بيده، وتصرّفه في مواردها كلّها.
ختاماً، يمكن القول إنّ تسخير سعيّد إمكانات الدولة وأجهزتها، وتحويلها إلى أدوات لتنفيذ ما يريده ضمن هذا السباق الانتخابي الأشبه بالتمثيلية، يُؤكّد نيّة سعيّد في تحويل هذه الانتخابات مُجرّد استفتاء شعبي على ولايته وإجراءاته، التي اتخذها منذ إطلاقه مسار 25 يوليو (2021)، لاستكمال مشروعه السياسي و"معركة التحرير الوطني"، التي يدّعيها، والتي أوصلت تونس إلى ديناميكية سلبية في المسارات كلّها، تراجعت معها المؤشرات إلى مستويات غير مسبوقة حتّى لم يعد العارفون بتونس يعرفونها، بعد أن استحكمت في شعبها مشاعر عدم الرضا عن الواقع، والمخاوف من المستقبل، في ظلّ تواصل نمط حكم سعيّد من دون أفق حقيقي في التغيير نحو الأفضل.