كائن بلا أمّ
أنا على ثقة بأنّها ستعود لتصحبني بعد أن أنهي العام الجديد، فقد رافقتني إليه في يومه الأول ثمّ غادرتني، تماماً كما رافقتني في يومي المدرسيّ الأول، وأدخلتني إلى تلك الساحة العريضة المليئة بالغرباء، بعدما أعادت ضبط هندامي، وأوصتني بأن أتناول شطيرة الزيت والزعتر التي أعدّتها على عجل، ودسّتها بين الدفاتر، وحذّرتني من مغادرة المدرسة وحدي في نهاية الدوام، وتعهّدت بأن تكون بانتظاري، والتزمت بوعدها... هل قلت لك إنّني أحببتك قبل النساء؟
حاولتُ أن أقنع الأطباء الذين أشاروا إلى الأجهزة المعلقة فوق رأسها بأنها لم تتوقف إلّا لأنّ أمي استيقظت، ورجوْتهم أن يتمهلوا قليلاً، كي يروا كيف ستنهض لتكنس ضماداتهم ومناديلهم الملطخة بالدماء، كما كانت تفعل كلّ صباح في بيتنا الذي تضجّ فيه ماكينات الأمومة كالمصانع، غير أنّهم أخرجوني عنوةً لأستقبل المطر الذي هطل مساء ذلك اليوم مدراراً في باحة المستشفى الذي لم يشفِ أمي.
كان مطراً يتيماً مات سحابه المنهك، بعدما قطع أميالاً طويلة ليذرفه أو لينوب عن دمعي الذي لا يكفي لكلّ هذا الحزن. لا أدري كم موسماً يلزم المطر لينفصل عن غيمته، أيكون "فصاله في عامين" مثلاً هو الآخر؟
شخصيّاً، أعترف بأنّني لم ألتزم بـ"العامين"، كنت أماطلها وأراوغها لأعود إلى صدرها كلما ابتعدت قليلاً عنها، فالعالم خارج الأمومة موحشٌ للغاية. ربما كان ذلك سرّ إخفاقاتي المتعدّدة في الحياة. أحياناً أشعر بأنّني تعمدت تلك الإخفاقات، بحثاً عن عذرٍ يعيدني إليها كسيراً لأظفر بعامٍ آخر في ظلالها. لم أقل لها مباشرةً إنّ "فصال كائن مثلي يحتاج إلى أعوام كثيرة، ومن الأفضل لو أبرمنا اتفاقاً نتجاهل فيه التقاويم والروزنامات والساعات، فلستُ جاهزاً بعد لمغادرة هذا الفردوس الكبير الذي يدعى بيتنا الصغير. وإنّني ما زلت أخشى عبور الشارع وحدي، وأخاف أن يأكلني ذلك الذئب الذي كانت تحذّرني منه دوماً، كلما راودني سأم ما وطلبت إذناً للخروج". ليتها أدركت أنّ عقدة "الذئب" لازمتني حتى اليوم، والأنكى أنّ الأمر لم يكن مزاحاً، فقد رأيت آلاف الذئاب التي تتربص بكلّ من ابتعد عن أمه.
ما زال المطر يهطل في الخارج، والكائنات تفرّ إلى بيوتها، ولم يبقَ سوى كائن واحد اجتاز عتبة العام الجديد بيوم واحد، ولم يعد إلى بيته. عندما تجيئين في نهاية العام لاصطحابي سأحدّثكِ عن عام مضى من دونكِ. سأخبرك أنّ ملابسي تمزّقت وغدوت عارياً تحت المطر، أرتجف في الساحة العريضة وحدي بعدما قرع الجرس وحضرت كلّ الأمهات لاصطحاب أبنائهنّ، ما خلا أمّاً واحدًة تأخرت على غير عادتها. سأشكو إليك الغرباء، وما أكثرهم هذا المساء، وسأعاتبك لأنّكِ نسيتِ أن تعدّي لي شطيرة الزيت والزعتر. أخرجت كلّ الدفاتر من الحقيبة، ونفضتها فوق المنضدة بلا جدوى. ليس من عادتك أن تتركيني جائعاً. وهندامي لم يكن مرتباً على غير العادة أيضاً. ثمّة خللٌ يحيّرني هذا المساء، وهناك رائحةٌ تتفشّى في المستشفى مغايرةٌ لروائح الأدوية والأمصال، أشبه برائحة رماد المواقد التي انفصلت عن حطبها، والظلال التي تكسّرت أشجارها في الزوابع. رائحةٌ تنبعث من مسافرٍ لم يستقبله أحد في المطار، يمشي مرتبكاً بين أفواج الكائنات التي تتعانق من حوله وتتلاصق، خشية أن يكون سبباً في "انفصالها".
ربما طال الانتظار أزيد مما ينبغي، فللأعوام أحكامها أيضاً. صحيحٌ أنّ جرس نهاية العام لن يقرع هذه المرة (وهل تقرع الأجراس لغير الأمهات؟) غير أنّي لن أستمع إلى هذر تلك الكائنات "البيضاء" عن الموت والرحيل و"الانفصال" والأجهزة التي توقفت قبيل وصول الأمّ إلى ابنها الواقف بانتظارها على باب العام الجديد، فالخلل فيها، وليس في السنديانة الشاهقة التي لم تتوقف يوماً عن الأمومة. وثمّة فرق شاسع بين أن تكون كائناً بأمّ، وكائن بلا أمّ.