كامالا هاريس الخيار الأفضل للدول وشعوبها
في آخر أشهر تسبق الانتخابات الأميركية، يتحوّل العالم كلّه بطّةً عرجاءَ. تتوقف التفاعلات جميعها، وتتأجّل أغلب المشاريع، في انتظار معرفة ساكن البيت الأبيض القادم، فلكلّ ساكن أسلوبٌ في الحكم، وأدواتٌ في التعاطي، وطرائق في إدارة الأمور. وتبعاً لذلك، يُحدّد الآخرون مواقفهم من القضايا الدولية، ويُشكّلون توقّعاتهم للمرحلة المُقبلة في السياسة الدولية.
ومع أنّ سياسات الولايات المتّحدة الخارجية، وتجاه الأزمات، بدأت تأخذ طابعَ الإدارة أكثر من الحسم، وبناء التحالفات، التي تدعم الموقف الأميركي تجاه الفاعلين الدوليين الآخرين، الصين وروسيا، لكن بالنظر إلى حجم التأثير الأميركي في مسارح السياسة الدولية، فهي المُفاوِض، حتّى لو من وراء الكواليس، الذي يجب أن يُصادق التفاهمات، والخصم أو العدو الذي لا بدّ من مراعاة مصالحه الدولية في أيّ مكان في العالم، والصديق أو الحليف، الذي تجب معرفة اتجاهات رياح سياساته حتّى لا يُصطدَم بها.
في هذه الآونة، يبدو العالم منقسماً بين من يُفضّل كامالا هاريس ومن يُفضّل دونالد ترامب، مع ترجيحٍ أكبرَ لهاريس، لأنّها تتبع خطوطاً سياسيةً أكثرَ وضوحاً، والمُرجَّح أنّ سياساتها ستكون امتداداً لسياسات بايدن مع إدخال تغييراتٍ تتناسب ومُتغيّرات البيئة السياسية الدولية، ما يعني أنّ هاريس ستواصل إدارة الأزمات العالمية التي ورثتها من مرحلة حكم بايدن، وإدارة التوازنات العالمية القائمة، مع سبغ سياساتها بطابعها الخاص، الذي يميل أكثر إلى التهدئة بقدر ما تسمح به قدراتها وصلاحياتها التنفيذية.
في المُقابل، معروفٌ عن ترامب، عدا عن توجّهاته اليمينية المُتطرّفة ونزعته الانعزالية، أنّه سياسيّ لا يمكن التنبؤ بسلوكه، وهذه إشكالية كبيرة، لا تواجه الحلفاء فقط، بل والخصوم بالدرجة الأساس، لذلك ليس مُستغرَباً الإحساس بالخطر على السلم والأمن الدوليين في ظلّ حكم ترامب، وإذا كانت استراتيجياته معروفةً الى حدّ ما، فإنّ التكتيك الذي يستخدمه في تنفيذ تلك الاستراتيجيات هو الحلقة المفقودة في سياق بناء القدرة لمعرفة وتوقّع خطواته القادمة. فعلى سبيل المثال، تَوعّد في رئاسته السابقة كوريا الشمالية بالويل والثبور، لكنّه صار صديقاً لكيم جون أونغ. ثُمّ ماذا لو عادت قضية التصعيد النووي مع روسيا، كما ظهرت في الأشهر الأولى للحرب الأوكرانية وأدارها بايدن بحكمة، كيف كان سيتصرّف ترامب حيالها؟
المخاوف من ترامب يجب أن يشعر بها الضعفاء أكثر من الأقوياء
المُؤكّد أنّ ترامب، رغم ما يُظهره من عشوائيةٍ وفجاجةٍ، وسلوكٍ يقترب من البلطجة، وحتّى فوضويةٍ في اتخاذ القرارات، إلّا أنّه يعرف تماماً من يضرب ومن يهادن، فعندما أمر باغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، كان لديه تقدير مُسبَق عن حدود الردّ الإيراني، وعندما صعَّد مع الصين كان يعرف مُسبقاً أنّ الصين لن تذهب إلى حدٍّ بعيدٍ في مواجهته، لوجود أولويات أكثر أهمّية لديها من الانخراط في أيّ نوع من أنواع الحروب في هذه المرحلة، وحينما صعَّد مع الاتحاد الأوروبي كان مُدرِكاً لضعف الاتحاد وقدراته المحدودة في تحدّي الولايات المتّحدة، وهذا يعني أنّ ترامب، بعكس ما هو معروف عنه، يخضع في الغالب لسلّم أولويات مُعيّن، ويعرف كيف يُوظِّف سياساته الخشنة في إدارة الأزمات. لذا، فإنّ المخاوف من ترامب يجب أن يشعر بها الضعفاء أكثر من الأقوياء.
يحيلنا ذلك إلى معرفة دور الدولة العميقة، وأثرها في صناعة القرارات واتّجاه السياسات العامة، ومحدودية مساحة تحرّك الرئيس وحدود فعّاليته. صحيح أنّ لكلّ رئيس أميركي بصمةً في السياسة، وثمّة فوارق أكيدة بين رئيس وآخر، لكنّ الدولة العميقة تُؤثّر بشكل كبير في جزء مُهمّ من سياساته، لأنّها تتولّى تقديم الخيارات، وطرح التفضيلات، وتنفيذ مُخرَجات القرارات، وهي من يعرف حجم قدرات الدولة، ومدى قدرتها في حشد الموارد، وتترك للرئيس اختيار أحد الخيارات التي تفضّلها هي، والمثال على ذلك أنه عندما أصدر ترامب قراره بقتل بشّار الأسد، عقب استخدامه السلاح الكيماوي في خان شيخون (إبريل/ نيسان 2017)، لم تنفّذ وزارة الدفاع الأميركية هذا الأمر، وفرضت عليه خياراً أخرَ يتمثّل بتوجيه ضربات صاروخية لمطار الشعيرات، الذي انطلقت منه الطائرات التي قصفت خان شيخون.
صحيح أنّ لكلّ رئيس أميركي بصمته، لكنّ الدولة العميقة تُؤثّر في جزء مُهمّ من سياساته، لأنّها تُقدّم الخيارات، وتُنفّذ مُخرَجات القرارات
ثمّة بعض الدراسات التي تناولت الدولة العميقة في أميركا، انتهت إلى خُلاصة مفادها تغلغل أصحاب وجهات النظر الدينية والسياسية في المؤسّسات المُهمّة مثل الخارجية والدفاع ووكالة الاستخبارات والبيت الأبيض، وأغلبهم من المحافظين الجُدد، الذين لهم رُؤى وتصوّرات معروفة عن السياسة الدولية، وموقف الولايات المتّحدة من قضاياها، ورغم أنّ للرئيس في النظام الأميركي دوراً تنفيذيّاً وتشريعيّاً مُهمّاً، إلّا أنّ وجودَ هذه الفئة ضمن مراكز صنع القرار والسياسة الأميركية يُلقي بظلاله على دور الرئيس، ويصنع الخطوط الأساسية لسياساته، ويترك له التصرّف ببعض التفاصيل. من هنا، نلاحظ أنّ السياسة الأميركية في آخر عشر سنوات باتت مُجرّد متابعة يومية للمشكلات الدولية، أو "البستنة" كما يسميها المُؤرّخ الرئاسي تيموثي نفتالي، في مقابلة معه في مجلة فورين أفّيرز (22 يوليو/ تموز الماضي).
رغم ذلك، الجزء الأكبر من دول العالم وشعوبه، وخصوصاً في منطقتنا، وفي ما يخصّ القضية الفلسطينية، تُفضّل صراحةً كامالا هاريس على ترامب، على الأقلّ تستطيع تشذيب سياسات الدولة العميقة، وربّما مواجهتها، إذا دعمت سياساتِها التيّاراتُ الديمقراطية والليبرالية، بعكس حال ترامب، الذي سيُكرّس التوجّهات المُنحرفة في السياسة الأميركية.