كان تقليل خسائر كارثة درنة ممكناً
تتعرّض بلدان كثيرة لأنواع مختلفة من الكوارث الطبيعية، تتباين في أنواعها كتباينها في شدّتها ومسبّباتها، وهي ظاهرة كونية لا تعترف بالفرق بين الدول، غنيّها وفقيرها، المتقدم منها والذي يراوح مكانه منذ قرون، فيواجه الإنسان فيها كوارث يعود سبب 90% منها إلى مخاطر مرتبطة بالطقس أو المناخ أو الماء، حسب المنظمة العالمية للأرصاد الجوية. وعلى عكس ما كان سائداً عقوداً، أن البراكين والزلزال ترتبط مباشرة بحدوث تغيّرات في القشرة الأرضية، إلا أن خبراء كثيرين افترضوا وجود علاقة ما تربط بين ارتفاع درجات حرارة الأرض ونسبة حدوث الزلازل والبراكين. وبغضّ النظر عن مسبّبات هذه الكوارث أو العوامل التي تساعد على حدوثها، فإن ضحية هذه الكوارث هم البشر جميعاً، من دون تمييز بين الأبيض أو الأسود، أو بين معتقد وآخر، وهم جميعاً من يدفعون ثمن تلك الكوارث من أرواحهم وممتلكاتهم وثرواتهم.
ليست هناك دولة أو منطقة في منأى عن أضرار كوارث طبيعية، وليس مبالغة القول إنه ليس من دولةٍ لا نصيب لها من هذه الكوارث. والأكثر إيلاماً عندما تأتي هذه الكوارث على بلدان تعاني من كوارث بشرية جرّاء النزاعات والصراعات المسلحة، والتي تؤدّي، بالتالي، إلى مضاعفة الأضرار، وتزيد من معاناة النازحين واللاجئين من هول هذه الصراعات، ويكون الوضع أكثر سوءاً، إذا اجتمعت هذه الكوارث مع الفقر وقلة الإمكانات وضعف البنية التحتية، الأمر الذي يزيد من تداعيات هذه الكوارث.
وعلى الرغم من التفوّق التقني والتطور التكنولوجي والتقدّم العلمي الهائل والاختراعات التي استطاع الإنسان أن يحلّ بها مشكلات عديدة تواجهه، إلا أنه بقى عاجزاً عن تطويع الطبيعة، وفشل في إخضاعها لنواميسه، واستسلم، بالتالي، لغضبها الذي لا يرحم، غير أنه، من جهة أخرى، استطاع الحدّ من آثارها عن طريق التأهب والاستعداد لحدوثها، فاستطاعت دول كثيرة ابتكار (ودعم) جهود التكيّف مع هذه الكوارث، وسرعة التعافي من آثارها ووضع السياسات والإجراءات التي تساعد على الإنعاش الاقتصادي في أعقاب كل كارثة طبيعية.
لا تزال السلطات الليبية غير قادرة على حصر عدد الوفيات على وجه الدقة، حيث العمليات مستمرّة في المدينة
ليست ليبيا استثناء من باقي الدول، فقد تعرضت لكوارث غير قليلة، ولكن الإعصار المتوسطي "دانيال" يبقى الأعنف والأشد، والذي خلف أضراراً بشرية ومادية تفوق ما تعرّضت له البلاد من كل الكوارث السابقة، إعصار ضرب معظم السواحل الشرقية لليبيا، غير أن درنة كانت أكثر المدن تضرّراً، حيث قدّرت ضحاياها بالآلاف، فضلاً عن الخسائر في الممتلكات. ولا تزال السلطات الليبية غير قادرة على حصر عدد الوفيات على وجه الدقة، حيث العمليات مستمرّة في المدينة، بحثاً عن جثث توزّعت تحت الأنقاض والبحر. كارثة بكل المقاييس، ومع أن أغلب الليبيين يعيشون تحت تأثير صدمة الفاجعة، إلا أن كثيرين منهم يتساءلون: هل كان بالإمكان الحدّ من هذه الخسائر الكبيرة؟ وهل إهمال الحكومات المتعاقبة على ليبيا وفسادها السبب المباشر في هذه الأرواح التي أزهقت والممتلكات التي دمّرت؟
أسئلة حائرة بحثت عن أجوبة شافية، علها تخفّف قليلاً من هول الكارثة، وحكومات تتفنن في إلقاء التهم على غيرها، وبرلمان يحاول أن يقتات أعضاؤه على مآسي أهالي درنة، من دون أن يملك أحدهم الجرأة والمصداقية للإفصاح عن المتسبّب في كل ما حدث، غير أن الحيرة لم تدم طويلاً، بعد أن نشر في وسائل التواصل الاجتماعي كثير مما تناولته تقارير ديوان المحاسبة وملاحظات الرقابة الإدارية منذ سنوات، والتي جاءت على أسباب كثيرة، كان يمكن بمعالجتها الحدّ، إلى درجة كبيرة، من هذه الخسائر، فضلاً عن دراسة علمية نشرت في عام 2022 حذّرت من كارثة على سكّان المناطق القريبة من حوض وادي درنة، حيث تناولت دراسة، نشرتها مجلة جامعة سبها، وضع السدود في تلك المنطقة. ولفتت المسؤولين إلى وجوب اتخاذ إجراءات فورية لصيانة هذه السدود، وإلى أنه في حالة حدوث فيضان ستكون النتيجة كارثية على سكان الوادي والمدينة. ووجه الباحث في نهاية دراسته نداء بالإسراع في صيانة هذه السدود. غير أنه، ورغم أهمية بحثه والمجهود الذي قام به من أجل إنجازه، فاته أنه ليس هناك من يهمّه مثل هذا الأمر، وأنه ليس لمثل هذه القضايا مكان على سلم أولويات متصدّري المشهد.
أدّى وجود حكومتين تتنازعان السلطة وتتنافسان على الحكم إلى تعطيل كامل لكل الخطط التنموية في شرق البلاد وغربها
بقى الوضع على ما هو عليه، رغم تخصيص أكثر من ميزانية لصيانة السدّين في درنة ومعالجة عيوبهما، وعجزت كل الحكومات عن حلحلة الإشكالات التي واجهت الشركات الأجنبية، واختفت الأموال المرصودة لهذا الهدف، كما اختفت أرواح آلاف الأبرياء، لتكتفي هذه الحكومات بتكليف النائب العام بفتح تحقيق في الموضوع، بعد حدوث الكارثة، وكأنها ليست أحد الأسباب، إن لم تكن السبب الرئيسي في ما حدث.
وفي السياق نفسه، أدّى وجود حكومتين تتنازعان السلطة وتتنافسان على الحكم إلى تعطيل كامل لكل الخطط التنموية في شرق البلاد وغربها، لتتعطل معها مشاريع التخطيط العمراني، الأمر الذي أدّى إلى انتشار البناء العشوائي، بعد أن عجزت الحكومات عن توفير المسكن المناسب، وتسهيل طرق الحصول عليه، فحاول المواطنون البحث عن أراضٍ للبناء، حتى وإن كانت خارج المخطط الذي ظل جامداً أكثر من عقدين، وهذا ما حدث في درنة، حيث اضطر كثيرون إلى البناء بدون تخطيط، ومنهم من استغلّ مسار الوادي أو ضفافه للبناء عليه. فضلاً عن تدمير الغطاء النباتي والاستيلاء على الغابات العامة والبناء داخلها، لتتحول تلك الأراضي الزراعية إلى كتل خرسانية، واقتلعت الأشجار التي كانت تؤدّي دوراً كبيراً في حماية المنطقة من العواصف والرياح، وهي أسباب أدّت إلى تفاقم الخسائر الناتجة عن هذه الفيضانات، والتي كان يمكن التقليل منها فيما إذا قامت الدولة بالدور المناط بها، من حيث اعتماد مخطّطات عمرانية جديدة تتناسب والتوسّع السكاني، ومنع البناء العشوائي غير المرخّص، وتفعيل القانون الذي يمنع المساس بالغابات العامة.
كارثة درنة جرفت الشجر والحجر والبشر، ولكنها فشلت في اقتلاع أيٍّ من المسؤولين في الشرق أو الغرب الليبيين من كرسيه
ومن جهة أخرى، يمكن القول إن الهاجس الوحيد لمتصدّري المشهد منذ سقوط نظام معمر القذافي هو البحث عن الطريقة التي يستمرّون فيها في الحكم، ما جعل الفوضى علامة مميزة لمعظم مؤسّسات الدولة، فعلى الرغم من وجود هيئة للجسور والأودية والسدود، تضم مئات الموظفين الذين يتقاضون مرتباتهم من الخزينة العامة، إلا أنها، كغيرها، مجرّد مؤسّسات ورقية توزّعت بين الشرق والغرب، من دون أن يكون لها برامج عمل أو خطط أو أهداف تسعى إلى تحقيقها، ومعظمها تشكو قلة الإمكانات وضعف الموارد، في وقتٍ تصرف فيه المليارات لشراء ولاء مليشيات لضمان بقاء هذه الحكومات لتفرض نفسها حكومات أمر واقع، ولتستمر ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، من دون أن تحرّك فيها مثل هذه الفواجع أي شعور بالمسؤولية، فكارثة درنة جرفت الشجر والحجر والبشر، ولكنها فشلت في اقتلاع أيٍّ من المسؤولين في الشرق أو الغرب الليبيين من كرسيه.
تأتي كل التقارير الداخلية لديوان المحاسبة، مما أيّدته الرقابة الإدارية، على الإهمال في صيانة السدود. وكذلك التقارير الخارجية التي صرح بها مسؤولون عديدون في المنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة، وقد قال الأمين العام للأمم المتحدة إنه كان بالإمكان تفادي سقوط ضحايا كثيرين، تفيد جميعها بأن مسؤولية الحكومات في ليبيا، منذ سقوط نظام القذافي، مباشرة عن هذه المأساة، وإن إهمالها وفسادها أدّيا إلى كل هذا الدمار وكل هؤلاء الضحايا، والتي كان يمكن التقليل منها والحدّ من آثارها، وإن تحقيق النائب العام الذي أفضى إلى حبس أكثر من 16 مسؤولاً يجب أن يقترن بتحقيق دولي يضمن النزاهة، ويكون بعيداً عن كل التجاذبات السياسية، ويمارس عمله من دون خطوط حمراء، ومن دون ضغط سياسي واجتماعي، وهو أقل ما يمكن أن يقدمه المجتمع الدولي للضحايا، علّه يعيد ثقة الليبيين فيه، بعد أن خذلهم وساهم في هذه الفوضى التي تعم البلاد.