كتابٌ واحدٌ يكفي
كتب الروائي جورج يرق، على صفحته في "فيسبوك"، الأسبوع الماضي، يقول: "الألماني إلياس كانيتي كتب رواية واحدة لا غير عنوانها (نار الله)، نال بها نوبل للآداب 1981، ثمّ طلّق الكتابة والانقطاع عن الناس والتحق بالحياة". فكّرتُ: كم هو جميل أن نكون كُتّابَ كتابٍ واحد نُذكر من خلاله، ونكون بإنجازه قد أتممنا مهمّتنا على هذه الأرض!
بيد أن كانيتـّي، الناطق بالألمانية، المولود في بلغاريا (1905)، والمُتَوَفّى في زيورخ (1994)، ليس صاحب كتاب أوحد، فله أعمال مسرحية عديدة وأبحاث ودراسات أدبية، وسواها، لكنّه بالفعل، صاحب رواية واحدة، ولستُ أدري إن كان قد نال بسببها بالذات جائزة نوبل، من دون النظر إلى أعماله الأخرى. نُشرت الرواية في فيينا عام 1935 تحت عنوان "Die Blendung" (العمى أو الانبهار)، فسارع النازيون إلى منعها، ثمّ تُرجمت إلى الفرنسية بعنوان "برج بابل" لتحظى بجائزة أفضل كتاب أجنبي، قبل أن تعيد دار غاليمار ترجمتها ونشرها تحت عنوان "أوتو دا في" في عام 1968.
مرغريت ميتشيل لم تنشر إلا كتاباً واحداً هو "ذهب مع الريح". رغم محاولات محدودة سابقة في عالم الكتابة، إذ ألّفت في شبابها قصصاً قصيرةً ومسرحياتٍ، وكتبت في مجلة أتلانتا، إلا أنّها أجبرت على التقاعد لأسباب صحيّة وهي في السادسة والعشرين من عمرها. ولكي تشغل نفسها إثر كسر في الكاحل، وملل مميت، شرعت في كتابة تاريخ عائلتها وقصص الكونفدراليات خلال الحرب الأهلية، فاستغرقت الكتابة ثلاث سنوات (1926 - 1929)، تبعتها سبعة أعوام أخرى لتحرير الرواية، ووضع اللمسات الأخيرة عليها، قبل نشرها. حققت رواية "ذهب مع الريح" نجاحاً فورياً، فحازت جائزة بوليتزر المرموقة عام 1937، وتحوّلت فيلماً شهيراً، وترجمت إلى 27 لغة، وبيعت منها ملايين النسخ.
في نوع مختلف تماماً، هناك الفرنسي كوديرلو دو لاكلو، الذي كتب عشية الثورة الفرنسية كتاباً على شكل مراسلات محمومة ونارية، نشره تحت عنوان "علاقات خطرة"، طبعت منه 2000 نسخة بيعت خلال شهر واحد. بعد وفاته وانخراطه في العمل السياسي، اعتُبِرَ عمله هذا تُحفةً فنّيةً وجزءاً من التراث الأدبي الفرنسي تقرأه الأجيال المتتابعة إلى يومنا هذا.
ألان فورنييه، أيضاً، لم تمهله الحرب العالمية الأولى التي التحق بها جندياً، فقُتِلَ في المعارك بعد نشر روايته الوحيدة "مولن الطويل" في 1913، وقد رُشّحت لجائزة غونكور، وترجمت إلى عدة لغات. أما الأميركي جي دي سالنجر، فقد أخرسه النجاح الأسطوري لروايته "الحارس في حقل الشوفان" (1952)، وهو في سنّ الـ32 عاماً، التي كانت تباع منها كلّ عام نحو 250 ألف نسخة، وانسحب على أثرها الكاتب من الحياة العامة، صمت كلّياً، وتوقف عن الكتابة والنشر (باستثناء بضع قصص قصيرة).
ثمّة كتب رائعة أخرى لم يُنجب كُتّابها إخوة لها، مثل "مرتفعات وذرينغ" (1847)، لإميلي برونتي، التي تُوفّيَتْ وهي في الثلاثين إثر إصابتها بالسلّ، ورواية "أن تقتل عصفوراً ساخراً "(1960)، لنيللي هاربر لي (1926 - 2016)، التي حازت جائزة بوليتزر في 1961، وبيعت منها أكثر من 30 مليون نسخة في جميع أنحاء العالم، أو رواية "المساعدة" لكاثرين ستوكيت، التي استوحت شخصية بطلتها من مدبّرة منزلها الأميركية السوداء.
القائمة تطول، وقد خطر لي وأنا أطالع تلك الأسماء والعناوين اللامعة، وأقارنها بالكثرة الفادحة والضحلة التي تُنشر اليوم، كم سيكون جيداً أن تسنح للكُتّاب فرصة واحدة لا غير لنشر كتاب يُثبِتون من خلاله أنّهم فعلاً كُتّاب أي أنّهم موهوبون وضروريون وجديرون أن يُمنحوا حقّ النشر! كم سيفكّر الكاتب حينذاك! كم سيتأنّى ويتمهّل ويعمل ويجهد قبل أن يُقدّم أو يجرؤ على النشر! وكم ستنجو أشجارٌ بوقف هدر الورق على أعمالٍ أقل ما يقال فيها إنّها غير ضرورية أو ذات قيمة أدبية!