كتبٌ لا تنتهي
كتبٌ كثيرةٌ أعود إليها بين حينٍ وحين، أتقصّد زيارتها كمن يزور صديقاً قديماً اشتاق إليه بعد طول غياب، أو كمن يقصد مرجعا يريد الاستزادة منه أو استشارته في أمرٍ ما. هناك أمّهات الكتب بالطبع، وإنما أيضا كتبٌ أمّهاتٌ تحضنك في مرحلة ما، تهدهد أحزانك وتطبطب على جراحك وتقنعك بأنك تستحقّ الحياة، أو ببساطةٍ بأن الحياة تستحقّ أن تُعاش. تلك أعمالٌ تعودها عندما ينتابك حنين، وتشعر أنّ روحك انكشفت وباتت في عراءٍ مطلق. العراء هو عُري المكان، والأرواح لا تستكين إلى أمكنةٍ عاريةٍ إلا بعد الممات. تُخبرك الأمّهاتُ الورقيّات بأن السنوات التي غدرتك حين قست عليك وخيّبتك وأطفأت جمرة عينيك، راحلة لا محالة، أنك لستَ في الوحشة والوحدة، إذ لك إخوة وأخوات ولدوا خصّيصاً كي يرافقوك، ويهوّنوا عليك، ويُخبروك، فتفتح صفحاتِها لتدفن رأسَك بين طيّاتها، تستنشق رائحة أوراقها، وتلقي بحِملك الثقيل فوقها، مستعيداً بأسىً بريق العينين اللتين كانتا ذات يوم متوقّدتين.
النهر لا يُعبر مرتين، ونحن لا ندخُل في مياهه مرّتين، قال هرقليطس. في القراءة أيضاً، نحن لا نقرأ الكتاب نفسَه مرّتين، لأنّه، كما أشار إليه الفيلسوفُ اليوناني، مياه النهر لا تبقى هي ذاتها، ونحن أيضاً مع مرور الزمن نتبدّل. من غير المنطقيّ مقارنة كتابٍ بنهرٍ، لأنّ النهر جارٍ فيما الكتابُ ثابت؟ لا. ثمّة كتبٌ مستنقعاتٌ، هذا صحيح، كلماتها تأسن بمرور الوقت، تتعفّن، تطفو عليها طبقةٌ من الكلام المتحلُّل، كريه الرائحة، لا يُغني ولا يُسمن. أما الكتب المهمّة فتبقى جارية أبداً، جارفةً، معانيها لا تكلّ ولا تهدأ ولا تنام. تنبض وتكبر وتتوالد في السرّ، تتشابك، تتمدّد وتنحسر، كالمدّ والجزْر. في داخل تلك الكتب محيطات، مخلوقاتٌ، عوالم، روائح، نباتٌ، ملائكة، شياطين، شموس، أكوان.
نعاود قراءة بعض الأعمال لأنّها كالصّروح العملاقة، لا يمكن الإحاطة بها دفعةً واحدة، لذا ترانا نطلّ عليها مراراً وتكراراً، لشعورنا ربما أننا لم نفها حقّها، لم نفهمها كما يجب، وأنّ أموراً فيها ما زالت حتما تحتجب عنّا، إذ كيف لك أن تدرك مثلاً كلّ أبعاد شكسبير وتعدّد طبقاته وزواياه من قراءة وحيدة، أو من لقاءٍ به وأنت في عشرينياتك؟ كيف تستوعب تعقيدات دوستويفسكي، أو سعة تولستوي، أو حداثة موزيل، أو جماليات ذلك المؤلَّف وعمقه من لقاءٍ أوحد؟ أجل، هذي مؤلفاتٌ تحتاج أن تدور من حولها، أن تستكشف خباياها، تفاصيلها، جُملها، تعبيراتها... إلخ، إذ هناك حتماً ما خَفي عليك، ما سهوْتَ عنه، ما فاتكَ، ومن حقّ ما فاتكَ عليك أن ترجع إليه لتعاود استكشافه من جديد.
من الممكن إعطاء أمثلةٍ كثيرةٍ عن كتبٍ أمّهاتٍ لا ننتهي من قراءتها، لأنّنا، كلّما عدنا إليها اكتشفنا فيها الجديد. هل يُقرأ المسرح الإغريقي مرّة واحدة على سبيل المثال؟ دونكيشوت؟ ألف ليلة وليلة؟ مسرحيات شكسبير بمقدرتها الاستثنائية على جعل الشر والقبح حتّى مُغريين؟ غوستاف فلوبير؟ توماس مان؟ روبيرت موزيل؟ هيرمان هسّه؟ فيرجينيا وولف؟ الأدب الروسيّ؟ الجرماني؟ التوراة؟ من دون نسيان مؤلّفاتٍ كثيرةٍ أخرى لا مكان لذكرها هنا في هذي العجالة؟
لكن، ثمّة من يرى في معاودة قراءة عملٍ أدبيٍّ أو فلسفيٍّ لزوم ما لا يلزم لأنه تكرار وإهدار وقت يمكن استثماره في قراءاتٍ جديدة. لا أظن، فالمسألة أيضاً وأيضاً ليست في الكمّ، وإنما في النوع، وفي ما تمنحه إياك الكتب أو تمتنع عن وهبه دونما قيدٍ أو شرط، فالقراءة الثانية أو الثالثة أو الرابعة متعة متجدّدة، أقلّه بالنسبة إليّ، وقد خبرتُ، بالتجربة والبرهان، أنّي لم أتلقَّ الكتابَ باقياً على حاله في المرّتين، وحتّى أنّي لم أكن القارئة نفسها إثر مضيّ عشرين عاماً أو عشرة أعوام!