كفانا الله شر الموقف العربي الموحد
في هذه المرحلة الغائمة الرخوة من التاريخ العربي المعاصر، يصبح الموقف العربي الموحد كابوسًا مخيفًا، وليس حلمًا يستحق الانتظار، بل أنه ليس أنسب من هذه اللحظة لاعتبار "اختلافهم رحمة"، بالنظر إلى أنهم لو اتفقوا جميعًا، فسيكون ذلك، مع الأسف، مصلحة صهيونية خالصة.
محمد البرادعي يسترجع حلمًا رومانسيًا بموقف عربي موحد، فيما يخص القضية الفلسطينية التي يرى أن السياسة الإسرائيلية المدعومة أميركيًا الآن تقوم على تهميش القضية.
المشكلة الحقيقية أن الموقف العربي الرسمي الموحد سوف يأتي، لو تم التوصل إليه، مصبوغًا بألوان العواصم والمحاور العربية صاحبة النفوذ، المالي والسياسي، وذات السطوة الجغرافية والتاريخية على القضية الفلسطينية. ولو دقّقت في طبيعة النظام السياسي ومنطلقاته وعقيدته في كل واحدة من هذه الدول ستجد أنها كلها من دول الهرولة نحو التطبيع، من دون حد أقصى مع الكيان الصهيوني، والانفتاح عليه اقتصاديًا وثقافيًا، بل والتحالف معه، مع إبداء كثير من الاحتقار لفكرة مقاومته، أو تصنيفه عدوًا، وربما مناصبة كل نفَسٍ مقاوم له العداء.
لا يخفى بالطبع أن هذه العواصم، النافذة، هي الأكثر كرهًا لفكرة الديمقراطية وحرية الشعوب، وهي أيضًا التي ضخّت عشرات المليارات من الدولارات في مشروع إقليمي للقضاء على أي دور أو حضور لهذه الشعوب في معادلة فلسطين .. رأينا ذلك في كل دول الربيع العربي، حين تجمّعت تلك العواصم المتخمة بالثروة لقتل الثورة الوليدة، والحرب على أية فرصةٍ لتطور ديمقراطي، قد يجعل الشعب العربي حاضرًا في موازين القوى، والإنفاق بسخاء على عمليات زراعة أنظمة صناعية، استبدادية وفاسدة، لضمان الهيمنة المطلقة على القرار السياسي في هذه الدول التي حاولت أن تثور على المعادلات القديمة.
هذا العواصم والمحاور، بما لها من نفوذٍ وسطوةٍ وهيمنةٍ على الدول العربية الأقل قدرة اقتصادية وسياسية، حال نجاحها في فرض موقفٍ عربي، رسمي، موحّد من القضية الفلسطينية، فإن هذا الموقف الجديد لن يخرج عن مواقف دول النفوذ، منفردةً أو مجمعة، فتكون المحصلة أنها تقود الجميع نحو الانبطاح أمام التصورات الأميركية، والسيناريوهات الإسرائيلية للمنطقة بأسرها، لينتهي بنا الأمر أمام صورةٍ بشعةٍ لتحالف عربي ضخم من أجل دمج إسرائيل، سياسيًا وثقافيًا، لا من أجل مشروع التحرر الفلسطيني.
الشاهد أن من المهم لفلسطين، وللشعوب العربية، ألا يكون هناك موقف رسمي عربي موحد، له شرعية ملزمة، كون هذا الموقف حال اتخاذه عبر آليات تمتلكها بالطبع دول النفوذ، مثل جامعة الدول العربية، سوف يكتسب حجيةً قانونيةً، قامعة أي أحلام تتعلق بالكفاح والمقاومة والتحرير، بل وسوف يتم تجريم أعمال المقاومة، ليتم تصنيفها إرهابًا، بقرار رسمي عربي موحد، وليس بمنطق الاحتلال الصهيوني.
من المفيد لقضية فلسطين، وللمواطن العربي، أن تبقى بعض الأنظمة العربية خارج سرب التطبيع، تعبّر عن اختلافٍ مع تياره الجارف الكاسح، الذي يحارب على كل الجبهات لكي تكون إسرائيل حاضرة في كل مدينة، وكل قريةٍ عربيةٍ، ويمكنك أن تتابع ما يدور الآن من سيناريوهات وخطط تتعلق بخنق ما تبقى من ملامح ممانعة ومقاطعة للعدو بخطوط الغاز وصفقات الكهرباء والمياه.
في الأزمة اللبنانية، وبالتزامن مع كشف قناة تلفزة صهيونية أن مشروع بايدن لتزويد لبنان بالطاقة، عبر مصر والأردن وسورية، سوف يعتمد على الغاز الطبيعي المصدّر من الصهاينة إلى نظام عبد الفتاح السيسي، تندلع اللطميات عبر برامج القنوات المصرية، تبكي، فجأًة، على أحوال لبنان وانقطاع الكهرباء والمياه عنه، وتطالب بإيجاد أي حل على وجه السرعة..هذا الـ"أي حل" بالطبع يتطلب غضّ الطرف عن هوية أدوات الحل.
السيناريو غير مستبعد في قضية مياه النيل، إذ كلما تصاعدت نبرة الخلاف بين القاهرة والخرطوم، من جانب، وبين أديس أبابا، من جانب آخر، يقترب الدور الصهيوني في حل الخلافات، وفقًا للرؤية الأميركية، القديمة الجديدة، التي بموجبها لن يتوقف تدفق مياه النيل عند العبور إلى سيناء، بل ربما تواصل طريقها إلى ما هو أبعد، غزة وما بعد غزة.
الموقف العربي الموحد، الآن، فيه سمٌّ قاتل.