كفى جلداً للمقاومة!
بعد عامٍ من الصمود والقتال والتضحيات والدموع والآلام والأحزان، ثمّة من يأتي اليوم ليعطي الدروس للمقاومة، مؤنّباً ومنتقداً ومحرّضاً ومحبطاً، وبين هؤلاء الصادق والغاضب بل وحتى الواقعي الناصح الذي يقرأ تطور الأوضاع ويستشرف أبعادها المأساوية، ولكن بينهم أيضاً مروّجي أطروحات التيئيس والإحباط لبعث اليأس في النفوس والدعوة إلى الاستسلام للأمر الواقع المهزوم، وإعلان انتصار المشروع الصهيوني الذي إذا حلّ بالمنطقة سيكون أكثر وبالاً عليها من كل الحروب التي عاشتها منذ زُرع هذا الكيان الغاصب فوق أرض فلسطين التاريخية.
عام كامل من الحرب والدمار والتضحيات التي أدّت إلى استشهاد وجرح أكثر من 150 ألف شخص على جميع الجبهات، وترحيل وتشريد أكثر من ثلاثة ملايين شخص أصبحوا لاجئين داخل بلادهم في قطاع غزة ولبنان، أغلبهم دمرت بيوتهم ومدنهم وقراهم، وضع يصعب تصوره وبالأحرى تحمّله، لكن أن يأتي اليوم من يلقي اللوم على الضحية ويجلد المقاومة ويحمّلها مسؤولية الجرائم التي ارتكبها الصهاينة وحماتهم في الغرب، فهذه وقاحة تبعث على التقزّز والاشمئزاز، لأنها تقطر بالشماتة والخبث والجبن، وربما العمالة أيضاً.
من يؤاخِذ، بعد عام كامل من الصمود، حركة حماس على هجومها يوم 7 أكتوبر (2023) على إسرائيل، ويحمّلها مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع، لا يضع نفسه في موقعها ووضع الفلسطينيين في غزّة التي ظلت محاصرة 17 سنة حتى نسيها العالم وكاد ينسى قضيتهم الأم القضية الفلسطينية، فهؤلاء لا يفعلون سوى ترديد السرديّة الصهيونية التي تُريد أن تُقنع العالم بأن التاريخ بدأ يوم 7 أكتوبر، ولن نذهب بعيداً لنبحث في التاريخ القريب أو البعيد عما كان يبرّر للفلسطيني أن يقوم بما قامت به "حماس" يوم 7 أكتوبر طوال تاريخ مأساته المستمرّة وتغريبته الطويلة، يكفي أن ننظر فقط إلى ما يجري اليوم أمامنا في الضفة الغربية، فهذه أرض لا تحميها "حماس"، وهي منذ أكثر من 30 سنة تحت "وصاية" السلطة الفلسطينية التي تنسّق أمنياً وسياسياً مع قوة الاحتلال، وبدلاً من أن تشهد السلام الذي وعدت به منذ ثلاثة عقود، حوّلها الاحتلال ومستوطنوه إلى جحيمٍ يوميٍّ لا يُدرك قساوته سوى الفلسطيني الذي يدفع فاتورته من دمه وحريته وصحته وأرضه وقوت يومه ومن حاضره ومستقبله. أليس مثل هذا الوضع المأساوي الذي أغلق كل الأبواب أمام الفلسطينيين وحشرهم في الزاوية داخل أكبر معتقلٍ مفتوح اسمه غزّة هو الذي دفع مقاوميهم إلى القيام بما قاموا به يوم 7 أكتوبر؟ فساعة الانفجار هذه كانت ستأزف، سواء حدثت قبل عام أو بعد عام، وسوف تتكرّر بعد عام أو عامين أو أكثر إذا بقي الوضع كما هو عليه، ولا شيء يُنبئ بأنه سوف يتحسّن لأنه يتراجع كل يوم من السيئ إلى الأسوأ، ومن يستنكرون على "حماس" طوفانها عليهم أن ينتظروا طوفاناً أكبر في المستقبل القريب إذا لم يُعترف للفلسطيني بحقّه في العيش على أرضه وتقرير مصيره بنفسه.
ما تقوم به إسرائيل، ونجحت في تحقيقه، هو حرب الترهيب لاستعادة قوة الردع التي تحتاجها راعيتها أميركا لتحكم المنطقة لعقود مقبلة
وما ينسحب على فلسطين ينسحب على لبنان ومقاومته، ومع الأسف ثمّة اليوم من بات يعتبر قضاء إسرائيل على حزب الله فرصة "تاريخية" لتحرّر لبنان وانتهاء تمزّقه الطائفي، وكأن الطائفية بدأت مع وجود حزب الذي لم يرَ النور سوى عام 1982، وقبل وجوده بأربع سنوات اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية التي دمّرت البلد ومهّدت للاجتياح الإسرائيلي لبيروت واحتلال لبنان، وما تلاه من استسلام عربي في قمة فاس التي عرضت السلام على إسرائيل مقابل القليل مما تبقى من الأرض الفلسطينية، ما جعل شراهة الإسرائيلي تكبر حتى ألجمتها الانتفاضة الفلسطينية الأولى وظهرت المقاومة اللبنانية في الجنوب يتزعّمها حزب الله الذي حرّر الجنوب اللبناني بقوة السلاح والنار وليس باتفاقات السلام أو الاستسلام.
الكلام الذي يروَّج له خلال هذه الأيام العصيبة التي تمرّ بها المقاومة في غزة ولبنان، سبق أن سمعنا ما يماثله إبّان الغزو الأميركي للعراق، ومن العراقيين والعرب ممن كانوا يرددون بتفاؤل مزيّف بأن انهيار نظام بغداد والقضاء على صدام حسين سيحرّر العراق وشعبه ويحرّر معه العرب وبلدانهم، ويحوّل العراق إلى أكبر واحة ديمقراطية في الشرق الأوسط، ويبعث التنمية والتطوّر في المنطقة وينهض بشعوبها ودولها.. وهلمّ جراً من أضغاث أحلام كهذه كان يبيعها أنصار الغزو الأميركي ومروّجو أطروحة الشرق الأوسط الجديد؟!
سقوط المقاومة يعني بداية الحقبة الإسرائيلية في المنطقة التي سوف تمتد لعقود مقبلة، ومع الأسف، ثمّة من بدأ من الآن يتهيّأ للزمن الإسرائيلي المقبل، مثلما رأينا نكرات نسيها التاريخ هلّلت للعهد الأميركي بعد سقوط بغداد. وهذا هو حلم بنيامين نتنياهو والغرب الإمبريالي الذي يدعمه ويحميه، ومثل هذا الحلم سبق أن عبّر عنه الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن وإدارته ممن كانوا ينعتون بـ "المحافظين الجدد"، عقب اجتياحهم العراق، ووجدوا من ساير خطابهم في الشرق الأوسط من العملاء والمحبطين واليائسين والخائفين فكيف كان مصير كل هؤلاء وشعاراتهم؟ ألم يمكر بهم حكم التاريخ الذي لا يرحم؟
الأمن الذي تعتبره إسرائيل شرطاً وجودياً لبقائها واستمرارها لن يتحقق خلال السنوات وربما العقود المقبلة
ما تقوم به إسرائيل، ونجحت في تحقيقه، هو حرب الترهيب لاستعادة قوة الردع التي تحتاجها راعيتها أميركا لتحكم المنطقة عقوداً مقبلة. لكن استعمال القوة والإفراط في استعمالها لن يحلا المشكل، لأن القوة لم تحلّ في أي يوم أي مشكل في العالم، بل تؤدّي إلى تعقيد المشكل وإدامته، وكل الحروب التي خاضتها إسرائيل وكل جرائمها في حق شعوب المنطقة لم تؤدّ إلى إحلال السلام أو شعورها بالأمن، ولا أدلّ على ذلك من أنها الدولة الوحيدة التي تعيش في حالة حرب مستمرّة منذ زُرعت في المنطقة قبل سبعة عقود. وبدون البحث عن مخرج سياسي يُنصف الفلسطينيين ويبعد الخطر عن اللبنانيين فلن تنعم إسرائيل بالأمن والسلام حتى لو طبّعت علاقاتها مع كل الأنظمة العربية، لأن السلام الحقيقي هو الذي سيقبله الفلسطينيون أو الذي يُبنى على أنقاض الفلسطينيين، وفي هذه الحالة على إسرائيل أن تبيد كل الفلسطينيين أو تطردهم من فلسطين، وهذا ما تحاول أن تنفذه في غزة ولن تفلح في ذلك، وبالأحرى أن تنفّذه على كل الفلسطينيين على كامل تراب فلسطين، وستبقى القنبلة الديموغرافية الفلسطينية السلاح الأمضى والأقوى الذي سينتصر للفلسطينيين في النهاية، طال الزمن أم قصر.
هذه الحرب سوف تتوقف ذات يوم لأنه لم يسجّل في التاريخ أن حرباً استمرّت إلى الأبد، لكنها لن تنتهي لأنها زادت من منسوب الحقد والكراهية والعداء بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وبين أغلبية العرب عموماً والإسرائيليين، والسلام المفترى عليه لن يتحقق غداً كيفما كانت نتيجة هذه الحرب التي لن تكون سوى هدنة قبل أن تندلع من جديد بعد سنة أو عقد، فالجرائم الإسرائيلية في غزّة ولبنان لن تمحوها عشرات السنين، وسيبقى ثأرها يتوارث جيلاً بعد جيل، والأمن الذي تعتبره إسرائيل شرطاً وجودياً لبقائها واستمرارها لن يتحقّق خلال السنوات وربما العقود المقبلة بدون إحلال سلام حقيقي يعترف للفلسطيني بحقّه في العيش بسلام فوق أرض أجداده، وهذا حقّ تاريخي ووجودي لم تسقطه كل الحروب التي شهدتها المنطقة ولن يسقط ما دام يوجد على أرض فلسطين من يحمل شارة النصر ويواصل المسير.