كلام رامسفيلد
كانت فكرة بناء نظام سياسي ديمقراطي بعد إبريل/ نيسان 2003 يُخرج العراق من عهود الاستبداد ذات تأثير طاغٍ على النخب الثقافية والاجتماعية. ورغم الشكوك التي عكستها، في الشهر الأول بعد الاحتلال وإسقاط نظام صدّام حسين، مظاهر السلب والنهب وظهور المليشيات بشكلها الأولي على سطح المجتمع، إلا أن الأمل بتحقيق هذا النظام "العادل" كان قوياً.
في صيف 2003 في مقهى "الجماهير" وسط بغداد، قرأنا مقالة لدونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأميركي في حكومة بوش الابن، يبشّر بها بالعهد الجديد في العراق، يرى فيها أن العراق يجمع امتيازات مبعثرة على الدول العربية الكبرى، فلديه مثل مصر يد عاملة، وطبقة وسطى نشطة، ولديه مثل دول الخليج ثروات طبيعية كبيرة، وأنه يحتاج الى عامل رابع؛ هو الإدارة الكفوءة، كي يكون منارة للعالم العربي في السنوات المقبلة.
رغبنا بقوة أن نصدّق كلام رامسفيلد، ولكن "السنوات المقبلة" جاءت بشيء لم نتوقّعه قط؛ احتراب أهلي ومظاهر عنف غير مسبوقة لم نر مثيلاً لها في أي حقبةٍ سابقة، حيث تحوّلت ساحات بغداد وشوارعها إلى ما يشبه ساحة المعركة بسبب التفجيرات الإرهابية، وعمليات الانتقام التي كانت تقوم بها المليشيات في ذلك الوقت.
وقف كثيرون من أفراد النخبة الثقافية والإعلامية العراقية داعمين التجربة الجديدة، وأن لا حلّ سوى بتدعيم أسس الديمقراطية الوليدة، فهي الكفيلة، فيما لو ترسّخت، بأن تزيح كل هذه المظاهر الطارئة، رغم هول بشاعتها، وأن دعوى إجلاء المحتل من العراق لن تتحقّق إلا ببناء التجربة الديمقراطية، لا المواجهات المسلحّة التي ترتدّ على المدنيين العزّل في نهاية المطاف.
أفاد دعم النخبة، الذي كان يترجم في البرامج التلفزيونية الحوارية، والمقالات والنشاطات الإعلامية، في تعزيز شرعية الطبقة السياسية الجديدة، التي لم يكن الشارع العراقي يعرفها، وساهم الإعلام نفسه في ترويجها، وترويج فكرة تقبل اختلافات هذه الطبقة السياسية، ما بين التشدّد والاعتدال، والعلمانية والإسلامية وغير ذلك، فهذه اختلافاتٌ يجب أن نتعايش معها، ضمن أسس دستورية وقانونية، فهي تعكس، في نهاية المطاف، الاختلافات في الشارع العراقي. وعلينا، في العهد الجديد، أن نروّج ثقافة قبول التنوع والتعدّد والاختلاف، فهذا القبول هو الضد النوعي لتجربة الاستبداد السابقة.
ظلت الحماسة لدعم النظام الديمقراطي موجودة مع توالي الأعوام، ولكنها خفّت وضعفت، وصار هناك تمييز بين الطبقة السياسية الجديدة و"فكرة" النظام الديمقراطي العادل. وصار من السهل رصد كيف أن هذه الطبقة السياسية توسّع، مع كلّ يوم جديد، من المسافة بينها وفكرة النظام الديمقراطي العادل، وصار الكلام الذي يلوكونه في الإعلام خالياً من التأثير، وبدا أقل مصداقيةً مقارنةً بما كان عليه الأمر في السنة الأولى من عمر النظام السياسي الجديد. أما لحظة التحوّل الأكثر أهمية، فيمكن وصفها بأنها؛ انقلاب الطبقة السياسية على المجتمع الداعم لها، وبالذات النخب الثقافية والإعلامية التي دعمت النظام الديمقراطي، ودعمتهم ضمناً باعتبارهم "رموز" هذا النظام الجديد.
في تظاهرات 25 فبراير/ شباط 2011 كشّر النظام الجديد عن أنيابه "الاستبدادية" من خلال ضرب المتظاهرين واعتقال بعضهم. وفي 8 سبتمبر/ أيلول من العام نفسه، قتل مجهولون الناشط المدني البارز والإعلامي هادي المهدي، وفهم الجميع أن النظام السياسي هو من قتله. ثم صار تقييد قتل الناشطين ضد مجهول سياسة متّبعة استمرت حتى تظاهرات أكتوبر/ تشرين الأول 2019 وما بعدها. وحتى لحظتنا هذه لم يقدّم أي متهم بمقتل المتظاهرين والناشطين إلى العدالة، وحتى في حالة إيهاب الوزني، الذي اتهم بعض المنتمين إلى الأجهزة الأمنية بمقتله في مارس/ آذار 2021، ما زالت محاكمتهم تراوح مكانها، ولا يبدو أنها ستحسم قريباً.
لقد استقلّت فكرة "النظام الديمقراطي العادل" بمسافة بعيدة عن النظام السياسي الحالي، وما عاد هذا النظام قادراً على ترويج نفسه أنه يمثل أياً من طموحات الشعب العراقي، سوى طبقة صغيرة من المحازبين والزبائن والمنتفعين الموجودين في أي نظام سياسي، مهما بلغ من القسوة والإجرام.
ولو اجتمعنا نحن الأصدقاء في ذلك الصيف من عام 2003 مرّة أخرى على تخوت مقهى "الجماهير" لسخر بعضنا من بعضنا الآخر لأننا صدّقنا كلام رامفسيلد، وأنه سيحدُث حقاً خلال سنوات قريبة مقبلة. ولكننا في الواقع لن نحتاج هذا اللقاء الافتراضي، فرامسفيلد نفسه يقول في يونيو/ حزيران 2015 لقناة CNN: كنتُ دائمًا أفكّر أن إنشاء ديمقراطية في العراق أمر غير واقعي.
هل أنت تمزح يا رجل؟!