كلام في العروبة قبل زوالها

28 يوليو 2024

(ساسان ناصرنيا)

+ الخط -

هيرودوت (484 ق. م - 425 ق. م) أول من أطلق من الإغريق تسمية العرب والعربية (ARABIA) على الجزيرة وسكّانها من قبائل رحّل أو مُستقِرَّة، وكانت الجزيرة العربية في خرائطه تمتدّ إلى نيل مصر، فصحراء مصر الشرقية بين النيل والبحر الأحمر، ومعها شبه جزيرة سيناء، كانت هي الحدود الغربية لجزيرة العرب. لكنّ ظهور العرب (هُويّة مُستقلّة) في مسرح التاريخ، يعود إلى ما قبل هيرودوت بقرون عدّة، إلى القرن التاسع قبل الميلاد. وبحسب عبد العزيز الدوري في كتابه "التكوين التاريخي للأمة العربية ... دراسة في الوعي القومي" (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1984)، فإنّ النقوش الآشورية التي تتحدّث عن العرب تعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وهو ما يتزامن مع ظهور الفرس في التاريخ، حسب عبد الوهاب عزّام في كتابه "الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام" (مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2013)، فهو يقول: "أقدم روايات التاريخ الإيراني تعود إلى الآشوريين في القرن التاسع قبل الميلاد". ويقول الدوري: "أقدم الإشارات إلى العرب نقوش آشورية بين القرنين التاسع والسابع قبل الميلاد، حيث جماعات بدوية أو شبه مستقرة في بادية الشام وبين الفرات والعقبة ويطلق عليها أسماء عريبي، عربي، عربو، عربا، وبلادهم بلاد العرب وعربايا".

في القرن الرابع الهجري، مزّفت صراعات السلطة، التي لم تتوقّف منذ الفتنة الأولى عام 35 من الهجرة، الوحدة السياسية للإسلام 

بدأت العروبةُ جنساً تربطها أواصر الدم، ثمّ لغة تربطها وشائج الفكر والروح والثقافة والأخلاق والطبائع والشعور، ثمّ رسالة إنسانية انطلقت من الجزيرة وتحرّكت في أنحاء العالم القديم، فأعادت رسم خرائطه القائمة حتّى اليوم، فصارت أملاك الإمبراطوريتين، الساسانية الفارسية ثمّ البيزنطية الرومانية، مع جزيرة العرب في تكوين سياسي واحد، ثمّ حضارة جديدة استوعبت ما قبلها من حضارات، واندمجت وأُدمِجت في مكوّناتها شركاء من مختلف الأعراق والأجناس والأصول واللغات، من عرب وفرس وروم وترك وكرد وبربر ومغول وزنوج، إلخ. منذ التقت العروبة مع الرسالة مع الإنسانية المُهمّة في التاريخ، صار من المستحيل أن تحيا العروبة مُنفرِدَةً مُستقلّةً مُنعزلةً مُكتفيةً بذاتها أو منكفئةً على نفسها، وكلّما فعلت ذلك أوشكت على الزوال أو زحف إليها الزوال، لتعود بائدةً كما بادت أول مرّة بواكير العروبة الأولى، حين بادت عاد وثمود والعمالقة وجُرهم الأولى، وطسم وجديس، هذه كلّها بادت وزالت، وبقي من العرب ما انفتح وتحرّك وتنقّل وهاجر، وراكم دروس البقاء وخبرات مكافحة الزوال، فمن العرب العاربة، حيث قحطان في الجنوب، ثمّ العرب المُستعرِبة، حيث عدنان في الشمال، وتفرّعات من قحطان حمير وكهلان، كما من عدنان مضر وربيعة. في هذا العهد من التاريخ كانت العروبة نسباً ودماً وجنساً، ولهذا كان علم الأنساب، كما يقول الشهرستاني، أول علوم العرب في الجاهلية.
ثمّ في القرون السابقة على بعثة النبي العربي (ص) كانت العروبة في ذروة نضجها، إذ القبيلة إطار سياسي يُنظّم العلاقات والحقوق والواجبات، واللغة مدار الهُويّة والثقافة، والتجارة تكفل علاقات خارجية ممتازة تساعد في فهم الجوارَين البعيد والقريب، كان حضور العرب الذهني والروحي والثقافي ووعيهم الوجودي على أليق ما يكون استعداداً لفهم واستيعاب وحمل رسالة إنسانية كبرى إلى العالم كلّه، لم يكن العربي ضيّق الأفق، ينطوي على تعصّب ومحدود الرؤية، العكس كان صحيحاً، كان ذا أفقٍ روحي وضميري وذهني وإنساني، يُؤهّله لأعظم دور لعبته أمّة في التاريخ المُدوَّن.
عند خاتمة القرن السادس ومطلع القرن السابع الميلاديَّين، كان العربي يُؤسّس تاريخاً جديداً للإنسانية هو التاريخ القائم حتّى الآن، التاريخ من بعثة حضرة الرسول العربي (ص) وحدة واحدة، وأيّاً كانت مدارس التاريخ، وأيّاً كانت تقسيماته، فلا ينكر ذو عقل أنّ مبعث ذلك النبي، ثمّ لقاء العروبة مع الرسالة كانت وما زالت في صدارة حوافز التاريخ ومُوجّهاته ومُحرّكاته.
في القرون الثلاثة: السابع والثامن والتاسع، في عهد الخلفاء ثمّ الأمويين، ثمّ العصر العباسي الأول، كانت العروبة بفضل الرسالة حضارةً تبسط ظلالها على الإنسان من دون حواجز دينية أو عرقية أو لغوية أو طبقية، كانت القيادة للعرب، ثمّ، كما يقول ابن خلدون (المُقدّمة: ص 222): "واستمر الحال على ذلك إلى أن انقرضت عصبيةُ العرب أجمع وذهب رسمُ الخلافة، وتغلّب الموالي من العجم على بني العبّاس، وتغلّب الصنائع على الفاطميين بالقاهرة، وتغلّبت صنهاجة على أمراء أفريقية، وتغلّبت زناتة على المغرب، وتغلّب ملوك الطوائف بالأندلس على بني أمية، واقتسموه، وافترق أمر الإسلام".
الوحدة السياسية للإسلام تمزّقت مع القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، مزّقتها صراعات السلطة التي لم تتوقّف منذ الفتنة الأولى عام 35 من الهجرة، بعد أقلّ من ربع قرن على وفاة النبي (ص). ثلاثة قرون حارب المسلمون فتحاً وغزواً في القارّات الثلاث من دون توقّف، كما احترب وتحارب المسلمون فيما بينهم خصاماً حول السلطة، وصراعاً عليها، من دون توقّف. قوّة الحضارة التي أسّسها العرب كانت من متانة النسيج فتحمّلت هذا القدر من حروب الفتح، وحروب السلطة، ثلاثة قرون، ثمّ هذه الحضارة كانت من القوّة والمتانة والخصوبة لتحافظ على ازدهارها وتفوّقها بعد تمزّق ثمّ سقوط الوحدة السياسية للعالم الإسلامي. كان الحُكم للعرب وحدهم، أو كما يقول ابن خلدون "العروبية"، التي حافظ عليها الأمويون، والصدر الأول من العبّاسيين. يقول: "كان الأمويون يستظهرون في حروبهم وولاية أعمالهم برجال العرب مثل عمرو بن سعد بن أبي وقاص، وعبيد الله بن زياد بن أبي سفيان، والحجاج بن يوسف، والمهلب بن أبي صفرة، وخالد بن عبد الله القسري، وابن هبيرة، وموسى بن نصير، وبلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، ونصر بن سيار، وأمثالهم من رجالات العرب، فلما صارت الدولة للانفراد بالمجد وكُبح العرب عن التطاول ( يقصد التطلّع) للولايات، وصارت الوزارة للعجم والصنائع من البرامكة وبني سهل، وغير هؤلاء من موالي العجم"... إلى قوله "أصبحت الدولة لغير من مهدها، وأصبح العز لغير من اجتلبه" (المُقدّمة: ص 183).

تحت الرداء العربي كانت إسهامات فرس وترك وكرد وبربر، ثمّ مغول وأبخاز وقوقاز وشركس. هؤلاء أصحاب الفضل في عدم زوال العروبة ألف عام 

ما أغفله ابن خلدون هو تداول شركاء الحضارة العربية قيادتها، ذلك كان تطوّراً طبيعياً. الذي حدث هو تداول العصبيات داخل النسق الواحد، انقرضت عصبية العرب فعجزت عن الاستمرار في القيام برسالتها، التي حملت أعباءها ثلاثة قرون، فانفتح الباب (في تطوّر طبيعي) لغير العرب من شركاء الحضارة الواحدة. ينقل ألبرت حوراني، في كتابه "تاريخ الشعوب العربية" (نقله إلى العربية أسعد صقر، دار طلاس، دمشق، 1997)، عن البيروني (973 - 1048م)، وهو من أصل فارسي، قوله: "ديننا ودولتنا عربيان". الدين والدولة هما جماع الحضارة، والحضارة كما يراها البيروني حتّى في القرن الذي وهت ثمّ انتهت تماماً قبضة العرب، تظلّ حضارة عربية، وفي كل مكان يبسط عليه الإسلام رداءه نصيب محفوظ للحضارة العربية لغةً ورسالةً وثقافةً وقيماً وأخلاقاً ودوراً في التاريخ.
تحت الرداء العربي كانت إسهامات غير العرب من فرس وترك وكرد وبربر، ثمّ من مغول وأبخاز وقوقاز وشركس. هؤلاء، كانوا أصحاب الفضل في عدم زوال العروبة ألف عام، منذ الهجمة الصليبية عند نهاية القرن الـ12 للميلاد، وقد تواصلت قرنَين، استنزفت خلالهما جهود أجيال مُقاتلة من غير العرب، ثمّ الهجمات المغولية عند مطلع القرن الـ13، وقد استمرّت ستّة عقود، لم يسلم من أذاها مكان في العالم المعمور، في القرون الثلاثة الميلادية: الـ13 والـ14 والـ15، كان شركاء الحضارة العربية، البربر في المغرب، والكرد والترك في المشرق، يتولّون بجسارة الذود عن حضارة العرب كي لا تزول.