كليوباترا تأخذ بثأر العرق الأسود
لمنصّة نتفليكس سلسلة لنساء عظيمات في التاريخ. وباكورتها كليوباترا، الفرعونة البطْلمية، ذات الأصول اليونانية، التي حكمت مصر قبل ثلاثة عقود على الميلاد. الشريط نصف توثيقي، نصف قصصي. والسَّنَد العلمي للشقّ التوثيقي موكول إلى ثلاث أميركيات، أستاذات جامعيات، متخصّصات بالتاريخ المصري القديم، لون بشرتي اثنتين منهنّ أسود. فضلاً عن متخصّص آخر ذي أصول مصرية، قليل الإصرار. والجميع يجزم بأنّ كليوباترا كانت "سوداء" البشرة. أما الجزء القصصي، فمن بطولة ممثلة "سوداء" أيضاً، تجسّد كليوباترا. وصِفة "السوداء" هذه لا يجب فهمها حرفياً، لأنّها لا تعني تماماً اللون الغامق الأفريقي الصافي، الذي لم يمتزج بالأبيض. هنا، نحن بصدد خلاسيين، خليط من البيض والسود. مثل الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، أو نائبة الرئيس الأميركي الحالي، كامالا هاريس. وهما يوصفان بـ"السود"، فيما هما خليطٌ من أبيض وأسمر وأسود. أو مثل بطلة شريط "نتفليكس" أديل جيمس، صاحبة دور كليوباترا، التي توصف بـ"السوداء"، فيما هي خليط؛ شعرُها بالغ التجعُّد، لكن بشرتها برونزية وتقاطيعها دقيقة. فكانت ردود الفعل المصرية العنيفة على تلك البطلة التي جعلت من كليوباترا امرأة سوداء.
ثلاثة أفلام "مهمّة" خرجت إلى السينما قبل ذلك، لم تحرِّك ساكناً في مصر. وفي الثلاثة، كان لكليوباترا بشرة بلورية بيضاء، وملامح رقيقة ناعمة وشعر أملس، أسود صحيح، لكنه بذلك يضفي المزيد من البياض. إليزابث تايلور، ذات العيون الليلَكية النادرة، كانت الأعظم أثراً، منذ ستين سنة. تلتها الإيطالية مونيكا بيلوتشي، والإسرائيلية غال غادوت. والثلاث صاحبات بياض ساطع. لكن، أن تكون كليوباترا "سوداء"، هذا ما لا يريح الفكرة "القومية" التي يحاول النظام المصري أن يرسيها في أذهان المصريين: قومية انعزالية "صافية" متشاوِفة على أفريقيا وعلى ما في تراثها من دونيّات. دونية اللون الأسود الأفريقي، مثلاً، الذي تحاربه مراكز "تبييض" الوجوه المتخصّصة بالجمال، وتُحييه الأغنية التي عادت وشاعت "البنت بيضا بيضا بيضا...". فكانت حملة غاضبة على الشريط "الأسود"، حكومية رسمية، ومن أعلى المواقع: وزارة الآثار، المجلس الأعلى للآثار، وزاهي حوّاس، العالم المكرَّس، ووزير الآثار السابق، نائبة في البرلمان المصري، فريق من القانونيين وعلماء الآثار، ومحامٍ مصري معروف، عمرو عبد السلام، جميعهم عبّروا عن استنكارهم الشديد، وقالوا إن العلم والتاريخ والذاكرة، كلها تؤكّد أنّ كليوباترا "بيضاء". ثم قاموا بمبادرات عملية: فيلم جديد عن كليوباترا من بطولة فنانة بيضاء (رشّحت له السورية سلاف فواخرجي)، دعوة إلى تحرّك دبلوماسي على أعلى مستوى، ومع المنظمّات الدولية لوقف بثّ المسلسل، المطالبة بـ"تعويضٍ مبدئيٍّ على الأضرار التي لحقت بالهوية المصرية، وشوَّهت التراث المصري". هذا طبعاً إلى جانب حملات التواصل الاجتماعي التي أصبح بعضها يعمل على طريقة صناديق البريد.
أن تكون كليوباترا "سوداء"، هذا ما لا يريح الفكرة "القومية" التي يحاول النظام المصري أن يرسيها في أذهان المصريين: قومية انعزالية "صافية" متشاوِفة على أفريقيا
والحال أنّ الذين تخيّلوا الوثائقي المرذول لم يأتوا من فراغ، إذ لا شيء يثبت أن كليوباترا كانت "بيضاء". أصولها اليونانية من العائلة البطلمية، التي تحكم مصر منذ ثلاثمئة سنة قبل الميلاد. عُرِف أبوها، بطليموس الثاني عشر، لكن أمها وجدّتها مجهولتان، ما يرجّح أن تكون الاثنتان، أو واحدة منهما، ذات لون أسود. وقد كان هذا الترجيح، بالنسبة إلى الجماعات الأهلية الأميركية السوداء، المدخل الأمثل لاعتمادها أيقونة. كيف؟
تقول أستاذة من المشتركات في الفيلم، وهي سوداء، إن جدّتها كانت تردّد لها، وهي طفلة: "لا يهمّني ماذا يقولون لكِ في المدرسة عن كليوباترا. فكليوباترا كانت سوداء". وإذا أخذتَ بالاعتبار عمر هذه الأستاذة المتقدّم، لا يصعب عليكَ التصوّر أن كليوباترا حاضرة في الوعي الأسود، قبل أكثر من أربعة أجيال وسط الجماعة السوداء.
منذ عام 1854، أي قبل ما يقارب القرنين، يكتب أحد الأميركيين البيض المعادين للعبودية، فريدريك دوغلاس، أنّ مصر القديمة نعمة أيديولوجية لأصحاب البشرة السوداء، الواقعين تحت نظام العبودية: وقوامها أن تاريخ البشرية عرف حضارةً لا هي أوروبية ولا بيضاء، ذات الأصول الرومانية واليونانية، التي يتشدّق بها البيض الاستعْباديون. وهذه الحضارة أقدم من تلك "الأصول"، هي البيت الأول للمعرفة والإنسانية. إنها تقع في مصر، ومصر تقع في أفريقيا. وكليوباترا مصرية، ولم يُثبَّت لونها. إذاً، هي أفريقيةٌ سوداء. وبعملية يتقنها البشر الصاعدون بعد قهر وهزيمة، تحوّلت كليوباترا مع الوقت إلى رمز لامرأة سوداء تحارب العبودية. ويفسَّر انتحارها تمرّداً، رفضاً للخضوع لسلطة البيض (باعتبار أنّ الروماني الذي هزمها، أوكتافيو، روماني أبيض).
كليوباترا حاضرة في الوعي الأسود، قبل أكثر من أربعة أجيال وسط الجماعة السوداء
في العصر نفسه، بعد عقدين على هذا التفسير للأيديولوجيا السوداء في أول طلوعها، كانت فنانة سوداء، اسمها أدمونيا لويس، تُنجز منحوتة من الرخام لكليوباترا بكامل ملكيتها، وهي تنتحر، سوداء، ذات عصَب، جالسة على كرسي فرعوني، رافعة رأسها، وكأنّها لن تستسلم حتى في موتها. والمنحوتة أصبحت من الكلاسيكيات، ومعروضة في متاحف بالتمور وديترويت.
منذ ذاك الوقت، تصاعدت الوتيرة، وأخذت النساء السود، بوحيٍ من أساطيرهن، يتسلّقن السُلّم الاجتماعي. وراحت الأقلام تسجِّل، كما كانت تفعل مع النساء البيض: أول طبيبة سوداء، أول قاضية، أول ملكة جمال، أول عارضة أزياء، أو وزيرة، أو نائبة. أول نائبة للرئيس، كامالا هاريس، أول حاملة لجائزة نوبل في الآداب، توني موريسون، أول منظّرة مناضلة لحقوق النساء والسود، إنجيلا دافيس، أول من يقترن بالعائلة الملكية البريطانية البيضاء حتى نُخاعها، وتصبح أميرة سوسِكس ميغان... ثم المغنية الشهيرة، ريهانا، التي تطلع إلى المسرح مرتدية لباس كليوباترا، جالسة بشموخ، على مقعدها المذهَّب، حاملة الميكروفون، وعنوان عرضها "مأثرة كليوباترا"... إنه صعودٌ للعرق الأسود، بصعود نسائه إلى قمَم غير مسبوقة.
بالموازاة، انقلبت شيئاً فشيئاً مقاييس الجمال، وصرتَ ترى النساء "السوداوات" على الشاشات، الكبيرة والصغيرة، في الإعلام والإعلانات التجارية، في عروض الأزياء، في أنواع شتّى من الواجهات الممكنة. الذوق والجمال أصبح مضمارهن، ومعه انقلاب للمعايير. حتى المؤخّرة السوداء العارمة، التي كانت يُستخفّ بها، باعتبارها "عيباً خَلقياً"، صارت من بديهيّات الإغراء، لها نجومها ومتتبِّعون لأولئك النجوم، بما لم يكن ممكناً تصوّره قبل عقدين أو أقلّ.
وتُعتبر هذه الموجة، أو هذا التحوّل الأيديولوجي، الذوقي والجمالي، الناجم عن صعود العرق الأسود... من علامات التقدمية الأميركية. وهو مدعوم بإنتاج المقاربات الفكرية "التقاطعية"، الرائدة عالمياً بإقامة الصلة بين ثلاثة اضطهادات: الجندري (امرأة/ رجل)، والطبَقي، والعرقي. وهي على نقيض الفكر العنصري الأبيض "السوبريماتيست" الذي يعبّر عنه دونالد ترامب بصراحة.
منصّة نتفليكس منضوية تحت هذه الوجهة، مثل "هوليوود" و"ديزني"، والعدد المتزايد من البصريات. وكلهم يُعدّون من أصحاب هذا الخط التقدّمي الأميركي. و"نتفليكس" تذهب بعيداً أحياناً. ففي شريط آخر، لا تتردّد المنصّة في جعل الملكة شارلوت الإنكليزية صاحبة بشرة "سوداء"، وكذلك محيطها، علماً أن الحقبة التي يغطيها هذا الشريط، أي فترة الوصاية على العرش البريطاني، تعود إلى زمنٍ كان البريطانيون فيه في أوج تجارتهم بالعبيد.
يكتب أحد الأميركيين البيض المعادين للعبودية، فريدريك دوغلاس، أنّ مصر القديمة نعمة أيديولوجية لأصحاب البشرة السوداء
إننا هنا بصدد إعادة كتابة التاريخ لصالح فئةٍ كانت مضطهدة، وها هي تتمكّن بأوجه مختلفة، وتطلب المزيد من التمكّن. مثل النسوية، التي تحاول إعطاء أدوار لنساء متخيَّلة في التاريخ، من أجل حقن النساء بالشجاعة في مواجهة الظالمين. كما في شريط "نتفليكس"، حين تُحاط كليوباترا بمستشاراتٍ من النساء (قارن مثلاً مع المستشارين الرجال المحيطين بكليوباترا "البيضاء"). مثل النسوية، كذلك الجماعات البشرية التي صعدت، وأرادت تصحيح هذا التاريخ لصالح رموزها ومعنوياتها وتاريخها الخاص.
هل كانت كليوباترا سوداء أم بيضاء؟ إنه سؤال يحيلنا على عصرنا، أكثر ما يكشف عن حقيقة تاريخية ما. سؤالٌ يفصل بين الرؤية التعدّدية، المرحِّبة بالتنوّع والاختلاط بين الأجناس والأعراق والإثنيات والأديان، ومخيّلات عنصرية تعود إلى قرنين منقضيَين. وإصرار المصريين على الغضب من كليوباترا "السوداء" يضعهم في زمن آخر، عندما كان العنصريون الاستعماريون، البيض الأقحاح، يكشفون عن تاريخ مصر، ويصوغونه في ضوء تصوّراتهم. ويؤهلون الخيال، ومعه الفن، ليضعا اللون الأبيض فوق كلّ الألوان.